جاري تحميل ... مدونة المفكر

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

مدخل إلى فكر محمد عابد الجابري (4) المنهج والرُّؤية




أحمد العطار
أولا: مسألة المنهج في فكر الجابري
ج- مفاهيم إجرائية  
توطئة:
نتناول في هذا الفصل مفاهيم إجرائية هي من صميم المفاهيم الأساس التي سيقرأ بها الجابري ” نقد العقل العربي”. في جزئيه الأول والثاني وهي: ” البيان والعرفان والبرهان”. إلا أني أجدني مضطرا قبل التطرق إلى كل مفهوم على حدىة إلى طرح توضيح منهجي أولي أصوغه في ثلاث نقاط أساسية:

النقطة الأولى:
إذا كان من شأننا في هذا المقام تناول معالم المنهج الجابري ومفاهيمه الإجرائية محاولين فصل ما أمكن بين الرؤية والمنهج، فإننا نؤمن أن مسألة الفصل هذه قد لا تأتى في كل الأحوال. ذاك أننا نصطدم في الغالب بضرورة الحديث عن المنهج والرؤيا بوصفمها كيانين متلاحمين لا يقبلان الفصل. وكما يقول الجابري نفسه”المنهج والرؤية متلازمان، المنهج تؤطره وتوجهه دوما رؤية صريحة أو ضمنية، والرؤية ذاتها نتيجة منهج في التحليل وطريقة في المعالجة.”(1)
قد تسعفنا بعض المفاهيم في الفصل – ولو بشكل نسبي- بين المنهج والرؤية. غير أن هذه المفاهيم التي بين أيدينا الآن، لا يستقيم الحديث فيها إلا إذا صدرنا عن قول في القالب/ المنهج، والرؤية/ المضمون. وبالتالي إذا كان هذا التداخل واقعة لا غبار عليها. فإننا سنكتفي برصد الخطوط العريضة التي تشكل كل مفهوم من هذه المفاهيم.
النقطة الثانية:
هذه المفاهيم الإجرائية الثلاث هي خطاطة نظرية تقوم على مفهوم مركزي استلهمه الجابري من الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” و هو مفهوم “الابيستيمي” أو”النظام المعرفي”(2)، هذا المفهوم الذي سمح كما يقول”كمال عبد اللطيف” بالإضافة إلى مفاهيم أخرى وظفت بأشكال أخرى في الكتابين بإنتاج خطاب جديد في دراسة الفكر العربي الإسلامي وفي التفكير في نقد العقل العربي الإسلامي. وهو يسمح كذلك بكشف لعبة الحقيقة أو فضح آليات المعرفة. إن العقل العربي إذن تحكمه ثلاثة أنظمة معرفية هي : البيان، العرفان، البرهان.
النقطة الثالثة:
إن مفاهيم: البيان، العرفان، والبرهان، هي مفاهيم أصيلة داخل فضاء الثقافة العربية. إنها
مستنبتة داخل هذه التربة، والجابري يتعامل معها تعاملا إجرائيا. بمثل ما يتعامل مع
مفاهيم يقتبسها من ميادين معرفية متباينة، فهو يأخذ من التربتين العربية والغربية.
والمهم في أي مفهوم هو وظيفته الإجرائية.
1 –   ما البيان ؟
نجد الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه” بنية العقل العربي”- دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفية في الثقافة العربية- يستعرض بإسهاب الملامح المعجمية لمصطلح “بيان”، كما تبلورت في القواميس العربية الأصل:”لسان العرب، ابن منظور، الكشاف، الزمخشري، العقد الفريد، محمد بن عبد ربه،… وغيرها.”
يخلص الجابري منها إلى اعتبار البيان في إطاره المرجعي اللغوي يفيد”الفصل والانفصال” و”الظهور والإظهار”. وإذا شئنا ترتيب معاني البيان على أسس التمييز بين المنهج والرؤية في النظام المعرفي البياني، قلنا مع الجابري أن “البيان كمنهج يفيد الفصل والإظهار، والبيان كرؤية يفيد الانفصال والظهور”(3).
بعد هذا المدخل المعجمي، سننتقل إلى تبيان واقعة أساسية يعتبرها الجابري”واقعة تاريخية” تتعلق هذه الأخيرة بأول عمل علمي منظم سيقوم به العقل العربي، وإن شئنا الدقة قلنا “العقل العربي البياني” وهو عملية جمع اللغة وتقنينها وتقعيدها. وهي العملية التي سيكون لها تأثير واضح على العلوم البيانية الأخرى من نحو، فقه وكلام”
إن الثابت التاريخي لهذه العلوم البيانية يشهد على أنها”كانت على رأس الأعمال العلمية الأولى التي انتقلت بالثقافة العربية الإسلامية، مع بدايات عصر التدوين، من ثقافة المشافهة والرواية إلى مرحلة الكتابة والدراية”. وبالتالي من الثقافة العامية إلى الثقافة العالمة…ويكون بهذا أول عمل علمي مارسه العقل العربي هو العلوم البيانية”(4).
لقد استعان العلماء القائمون بهذه العملية العلمية، (تقعيد اللغة وتقنينها). وإن كنا هنا مضطرين إلى القول انه يصعب الفصل بين الاختصاصات داخل العقل المعرفي البياني- كما يحدثنا عن ذلك الجابري – إذ كان اللغوي متكلما، والمتكلم نحويا، والفقيه لغويا متكلما وهكذا… المهم هنا هو أن هؤلاء العلماء سيطلبون مصدرهم أو سيستعينون برافدين أساسيين. أولهما: لغة الأعرابي أي الإنسان العربي البدوي الخشن الذي لم تختلط لغته بلغة الحضارة ولم تتسرب إليه نسائمها. وثانيهما: النص الديني( القرآن الكريم والحديث النبوي).” إن كل المعطيات التاريخية المتوفرة لحدود الآن تؤكد أن الأبحاث والمناقشات التي ستسمى فيما بعد بهذه الأسماء،كان يستقطبها مركز واحد هو النص الديني الأساسي: القرآن. الكتاب المبين”(5)
محصول القول، أن ” لغة الأعراب” و”النص الديني” هما المصدران الأساسيان اللذان
سيلجأ إليهما” العقل البياني” طالبا مادته المعرفية العلمية. وبطبيعة الحال إن علوم اللغة ستكون نموذجا تحتديه الأعمال والأبحاث البيانية الأخرى التي ستعرف تطورا، وستشهد دائرتها اتساعا ليشمل الخطاب العربي ككل، من شعر وخطابة وترسل وفنون أخرى. ستحدث هذه الأبحاث نقلة بالبيان، أي نقله كنظام معرفي من حالة اللاوعي/ اللاعلم، إلى حالة الوعي/ العلم – من حالة الفطرة والعادة والمشافهة، إلى حالة التقنين والتفكير والمنظم الخاضع لقوانين.
يستهوي الجابري الطرح المقاراناتي بين العرب، أروبا واليونان. نجده بين الفينة والأخرى يعرض لمثل هذه المقارنات. وتماشيا مع موضوعنا يقول الجابري”إذا كانت الفلسفة هي معجزة اليونان فإنّ علوم العربية هي معجزة العرب”(6). وإذا جاز لنا أن نسمي الحضارة العربية بإحدى منتجاتها جاز لنا أن نقول عنها أنها حضارة فقه وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حين نقول عنها إنها حضارة فلسفة وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة على أنها حضارة علم وتقنية.”(7).
علوم اللغة هي معجزة العرب الخالدة والعقل العربي عقل فقهي وحضارته حضارة فقه بامتياز، تلك هي الخلاصة التي يخرج بها الأستاذ الجابري من قراءته النقدية للتراث العربي الإسلامي.
يرتبط البيان عند صاحبنا بالمعقول الديني ذلك أن الفعل العقلي في البيان العربي يتحدد بالمعقولية الكامنة في هذا البيان نفسه. هذه المعقولية تجد أعلى مراتبه وأكملها في الكتاب العربي المبين: القرآن.”فالمعقولية في البيان العربي إنما تحدد أولا وقبل كل شيء داخل الكلام القرآني.”(8)
يحيلنا الجابري إلى”ثلاثة عناصر أساسية يتحدد بها المعقول الديني العربي هي:
    القول بإمكانية- بل بوجوب- معرفة الله من خلال التأمل في الكون
    القول بوحدانية الله- أي بنفي الشريك
    القول بالنبوة
وهذه العناصر التي يتحدد بها المعقول الديني العربي يتحدد بها عكسيا اللامعقول العقلي الذي كان يجره معه الموروث القديم”(9).
إن علوم البيان من نحو وفقه وبلاغة يؤسسها حسب الجابري نظام معرفي واحد يعتمد “القياس” قياس الغائب على الشاهد كمنهاج في إنتاج المعرفة وما أسميناه بالمعقول الديني العربي المتقيد بالمجال التداولي الأصلي للغة العربية كرؤية وكاستشراف.
إن هذا الميكانيزم الذي يحرك العقل البياني الذي يقوم على التشبيه”…ومن هنا كانت وظيفة الاستدلال البياني تشبيها بلاغيا كان أو قياسا فقهيا أو كلاميا أو نحويا هي المقارنة بين الأشياء وتقريب بعضها إلى البعض بهدف البيان والإظهار”(10).
إن القياس كما يقول الجابري هو آلية للنشاط الإنتاجي المعرفي البياني، يسميه “القياس البياني”. أي إنه عملية مقايسة ومقاربة، وليس عملية تأليف “إن القائس لا يصدر حكما جديدا بل يعمد إلى حكم موجود، حكم الشارع في الفقه، أو الشاهد في علم الكلام، أو المواضعة في النحو والفقه…”(11) ومنه فإن القياس البياني عبارة عن تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به وهو يتألف في بنيته العامة من أربعة عناصر: الأصل والفرع والحكم والعلة”(12).
نجد إلى جانب القياس مبدأ “التجويز” وهو المبدأ الابيستيمولوجي الذي يؤسس موقف المتكلمين معتزلة أو أشاعرة، والقاضي يإنكار الطبع والسببية بالمعنى الفلسفي، والقول بالتالي بالعادة.” فالتجويز هو الأساس والاطراد، والذي نشاهده في الحوادث هو مجرد  عادة “اعتدنا أن نرى القطن يحترق عند ملامسة النار فقلنا إن النار هي سبب الإحراق، بينما الصحيح- عندهم- أن المسألة مجرد اقتران وليست مسألة تأثير”(14).
والمبدأ الابستيمولوجي الثالث هو مبدأ “الانفصال” الذي ينص على أن العلاقة بين”الجواهر الفردة” التي تتألف منها الأجسام هي علاقة تقوم على التجاوز والانفصال وليس على الاحتكاك أو على التداخل”(15)
تعود هذه المبادئ الابيستيمولوجية الثلاثة في الأصل (القياس- التجويز- الانفصال) التي تشد إليها الصورة العالمة للبيان، منهجا ورؤية حسب الجابري إلى محدد وسلطة أساس:
إنها “سلطة اللغة العربية” أي اللغة كحامل للثقافة. ويضع الجابري فرضية تفسر هيمنة هذه المبادئ الابيستيمولوجية على العقل البياني، فرضية يعود بها إلى بيئة الأعرابي الجغرافية الصحراوية التي يطبعها الانفصال والجواز والمقاربة. إن نظرة الأعرابي(الرؤية) بدورها راجعة لبيئة- الأعرابي- التي تفرض عليه أن يذرر الزمان والمكان وأن يسلك في فكره مسالك لا برهانية كالقياس والتجويز”(16).
نقفل القول فيما يخص البيان عند هذا الحد. فقد تعرفنا على البيان والمبادئ الابستمولوجية التي تحدده. وتعرضنا الى أهم السلط المرجعية التي تحكم التفكير في الحقل البياني العربي. والآن لننتقل إلى نظام معرفي آخر هو “العرفان”…
2 – ما  العرفان ؟


“العرفان في اللغة العربية مصدر “عرف” فهو و”المعرفة” بمعنى واحد. في”لسان العرب”.”العرفان: العلم، عرفه، يعرفه، عرفة، وعرفانا ومعرفة. وقد ظهرت كلمة “عرفان” عند المتصوفة الإسلاميين لتدل عندهم على نوع أسمى من المعرفة يلقى في القلب على صورة “كشف” أو “إلهام”، “فقد كان هناك عند المتصوفة تمييز واضح بين معرفة تكتسب بالحس أو بالعقل، وبين معرفة تحصل بالكشف والعيان”(17).
يتبدى انطلاقا من هذا الملمح المعجمي السالف، الذي يحدده ابن منظور “للعرفان” – ويأخذه الجابري منه- أنه يقوم على التمييز الواضح بين المعرفة التي تقوم على العقل، والمعرفة التي تقوم على الكشف والوصال. وهذا التمييز الذي نجده عند “السهروردي” والذي يفصل فصلا واضحا وملحا بين”الحكمة البحثية”، القائمة على الاستدلال والنظر والبرهان و”الحكمة الإشراقية” القائمة على الكشف والإشراق. ويجعل على رأس الأولى”أرسطو” وعلى رأس الثانية “أفلاطون”.”(18)
واذا ماساءلنا اللغات الأجنبية وجدنا العرفان يسمى فيها”بالغنوص.gnose  “، والكلمة يونانية الأصل gnosis  ومعناها: المعرفة، وقد استعملت أيضا بمعنى العلم والحكمة. غير أن ما يميز العرفان هو أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصا، وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى من معرفة المؤمنين البسطاء، وأرقى من معرفة علماء الدين الذين يعتمدون النظر العقلي(اللاهوتيين، والمتكلمين). ويمكن القول بإجمال أن العرفان “يقوم على تجنيد الإرادة وليس على شحذ الفكر، كما يمكن القول أنه يقوم على جعل الإرادة بديلا عن العقل”(19).
بعد هذا التأطير المعجمي لمفهوم “العرفان” كنظام معرفي سواء داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية أو من خارجها داخل فضاء الثقافة الغربية. فلنحاول الآن أن نستشرف منظور الجابري إلى هذا النظام المعرفي؟
سبق أن ربط الجابري البيان بما أسماه” المعقول الديني”. وهذا الربط لا يستقيم والعرفان فهذا الأخير يربطه صاحبنا بـ”اللامعقول العقلي” أو ما يسميه “العقل المستقيل”. وهو الذي يمثل الموروث القديم من (هرمسية، أفلاطونية محدثة…)، الذي اندمج في الثقافة العربية الإسلامية في إطار”تداخل الثقافات”، فوظفته- الثقافة العربية الإسلامية- توظيفا جديدا وأضفت عليه معنى آخر إسلاميا. إن الموروث الثقافي القديم قد دخل كجزء لا يتجزأ في الثقافة العربية الإسلامية. كيف لا وقد كانت مواطنه لمدة عشرة قرون، قبل عصر التدوين، مواطن عربية: الإسكندرية، إنطاكية، أفامية، حران، الرها، ونصيبين، ثم بغداد، ومن قبلهما جميعا أرض بابل ومصر واليمن”(20).
تشكل الهرمسية وعلومها حسب الجابري أول ما اصطدم به المسلمون من علوم الأوائل وتعتبر الشيعة أول من تهرمس في الإسلام، وهي – الهرمسية- فضلا عن كونها ترتبط بالسحر فإنها عقيدة دينية مباينة ومخالفة للعقيدة الإسلامية، وهذا ما قد يفسر لنا ذلك العداء الذي التزمه أهل السنة حيال علوم الأوائل. فهو عداء يعود في جوهره إلى العقيدة الهرمسية التي كانت تباطن هذه العلوم وتؤسسها. وقد كانت حركة الترجمة التي قادها”خالد بن اليزيد” وراء تعرف المسلمين على الهرمسية وعلومها.
إن واقعة تأثر الموروث العربي الإسلامي بالهرمسية هي حسب صاحبنا واقعة لا غبار عليها، إذ تظهر بجلاء لدى فرق ومذاهب وعلماء : فلقد ظهرت عند بعض المتكلمين الأوائل وخصوصا لدى الغلاة، الروافض، والجهمية، ولدى المتصوفة(أبي هاشم الكوفي، الحلاج والجنيد…وغيرهم). وفي رسائل إخوان الصفا، ولدى الفلاسفة الاسماعليين، وجابر بن حيان والرازي. ونجدها أيضا في فلسفة ابن سينا المشرقية، وتصوف الغزالي، والقائمة طويلة…
إن افتحاص هذا الموروث والذي تمثل في أبرز جوانبه في” الهرمسية” في اندغامه  واندماجه بالموروث العربي الإسلامي يبين أنه قد تم توظيف شظايا الهرمسية بالشكل الذي جعل حضور العقل المستقيل حضورا قويا. بل انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى، خاصة في مصر وسورية وفلسطين والعراق”(21).
إن علوم العرفان من تصوف وفكر شيعي، وفلسفة اسماعيلية وتفسير باطني للقرآن
وفلسفة إشراقية وكيمياء وتطبيب وفلاحة نجومية، وسحر وطلسمات، وعلم تنجيم … يؤسسها نظام معرفي يقوم على “الكشف والوصال” و”التجاذب والتدافع” كمنهاج، وعلى ما أسميناه “اللامعقول العقلي” أعني الذي ينسب إلى العقل لا إلى الدين. والذي كرسته الهرمسية كرؤية وكاستشراف”(22).
إن الموقف العرفاني هو موقف سحري بالدرجة الأولى، قوامه رؤية سحرية للعالم. إن العرفاني أو العارف يعمل على تزكية أناه ويجعل من نفسه ذرة الخير في عالم جله أو بعضه شرّ. إن العارف يعتبر نفسه كائنا إلهيّا، لا يعترف بحدود المكان أو الزمان أو الطبيعة أو السنن الكونية، وهو يفسر خرقه للعادة (حلول، تسرمد، السفر عبر الزمن، الكشف). وقلبه للطبائع وإتيانه الشيء من اللاشيء، هو من صميم قدرته وعرفانيته ككائن إلهيّ.
كما أن “العرفانية”(*) كما أجمع مؤرخو الأديان لم تكن مرتبطة فقط بالدين الإسلامي أو بالمسيحية وحدها، بل هي ظاهرة عامة عرفتها الأديان السماوية جميعا، كما عرفتها الديانات الوثنية، ومن هنا حضورها التاريخي كثابت أساس.
وبعد، فإن العرفان يلغي العقل. ويحلّ محله الوصال والكشف، ويلغي المعرفة النظرية الاستدلالية، ويكرس المعرفة اللدنّية. وأمام هذا الإلغاء والإقصاء يكون من حق العقل أن يدافع عن نفسه ويؤكد ذاته كنظام معرفي يوازي البيان والعرفان، إننا نلمح هنا إلى “البرهان” كنظام معرفي حاضر في الثقافة العربية الإسلامية وإليه سنتجه الآن بالسؤال؟
3_  ما البرهان؟
أول ما سنسلط عليه الضوء فيما يخص “البرهان” كنظام معرفي هو دلالته المعجمية:
“البرهان في اللغة العربية هو “الحجة والفاصلة البينة”، ولا تكاد معاجم العربية تضيف تفاصيل أخرى. أما في اللغات الأوروبية فكلمة “démonstration” تعني في أصلها اللاتيني “Dèmonstratio” الإشارة والوصف والإظهار. وفي الفرنسية يفرقون بين الفعل “dèmontrer” بمعنى عرض الشيء أو الأمر بوضوح وتماسك منطقي، وبين “montrer” وهو فعل يفيد الإشارة إلى الشيء إشارة محسوسة. أما في الاصطلاح المنطقي فالبرهان بالمعنى الضيق للكلمة هو: العمليات الذهنية التي تقرر صدق قضية ما بواسطة الاستنتاج، أي بربطها ربطا ضروريا بقضايا أخرى بديهية، أو سبقت البرهنة على صحتها. أما في المعنى العام فالبرهان هو كل عملية ذهنية تقرر صدق قضية ما”(23).
إننا نجد البرهان لا يتحدد عند الجابري بمعناه الاصطلاحي المنطقي الضيق، ولا حتى بمعناه العام، فهو يحدده كــ”نظام معرفي متميز بمنهج خاص في التفكير وبتقرير رؤية معينة للعالم. لا تعتمد سلطة معرفية أخرى غير ذلك المنهج”(24).
إن البرهان نظام معرفي كان له وقع وحضور وازن ومتميز داخل البيئة الثقافية العربية الإسلامية وهو يعود إلى المعلم الأول “أرسطو”.
يذكر الجابري أن أول المذاهب الفلسفية اليونانية التي تعرف عليها الفكر الإسلامي هم من دعاهم “الشهرستاني” بالقدماء، أي الأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية الجديدة والفلسفة الدينية الهرمسية. أما المعلم الأول أرسطو وفلسفته فلم يتعرف عليها الفكر العربي الإسلامي إلا في مرحلة تالية. يقول الجابري:” إن حضور الأرسطية في الثقافة العربية الإسلامية، قد جاء متأخرا بما لا يقل عن قرن من الزمان عن حضور الهرمسية (العالمة) فيها.”(25).
إن غياب أرسطو يعني غياب المنطق الأرسطي والفلسفة الأرسطية بشكل عام. وما حضور الأفلاطونية المحدثة والأدبيات الهرمسية إلا معطى يؤكد من ذاته هذا الغياب. فمتى سيتعرف العقل العربي على أرسطو؟ وكيف بدأ حضور الأرسطية في الثقافة العربية الإسلامية؟.
سؤال للجواب عليه يلتمس صاحبنا من “ابن النديم” في كتابه الشهير” الفهرست” دعامته، والتي يعول فيها على “حلم المأمون” الذي أورده ابن النديم في كتابه المذكور وهو الحلم  الذي كان وراء تلك العملية الني عرفت استجلاب الكتب القديمة وترجمتها إلى العربية. ونقصد هنا على الخصوص ترجمة كتب أرسطو في إطار تأويلي للحلم أو الرؤيا التي رآها المأمون.
يذهب الجابري إلى تفكيك الخطاب الماورائي الكامن خلف هذا الحلم، اذ يعمل على تعريته وكشف “لا مقوله” ويبين وظيفته الاديولوجية. يقول:”إن ما يتضح من هذا الحلم ليس ما يثبته. فالعقل والشرع والجمهور- أو الإجماع-، أصول مقررة معروفة. بل الهدف الحقيقي – من الحلم- هو ما ينفيه. وما ينفيه الحلم بتلك العبارة القوية”ثم لا ثم” ليس شيئا آخر غير الغنوص والعرفان. وإذن فحركة الترجمة التي نشطها المأمون وجند إمكانات دولته من أجلها، والتي اتجهت إلى أرسطو أساسا. إنما كان الهدف منها مقاومة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي، أي مصدر المعرفة التي تدعيه وتنفرد به الحركات المعارضة للعباسيين”(26).
صار لزاما علينا أن نشير- كما فعلنا مع النظامين السابقين- إلى أن الجابري يربط بين البرهان و”العقل الكوني” أو ما يسميه”المعقول العقلي”. “وعلوم البرهان من منطق
وطبيعيات- بفروعها المختلفة- وإلهيات بل ميتافيزيقا، يؤسسها نظام معرفي واحد يقوم على الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج وعلى… المعرفة العقلية المؤسسة على مقدمات عقلية كرؤى وكاستشراف.”(27).
غير أن حضور النظام المعرفي”البرهان” في الثقافة العربية الإسلامية، والاستنجاد بالعقل الكوني – أرسطو ومنطقه وفلسفته- لم يكن من أجل البرهان أو أرسطو. بل هو حضور واستنجاد يدخل في إطار استراتيجية الدولة العباسية أو لنقل سياستها، والتي كانت تروم الرد على خصومها الإيديولوجيين(الغنوص المانوي، العرفان الشيعي، والباطنية).
إن تنصيب العقل الكوني في الثقافة العربية الإسلامية من خلال أعمال ابن رشد والشاطبي وابن الهيثم وابن حزم… هؤلاء الذين قاموا بتنصيب المنطق والفلسفة الأرسطية. وعملوا على ترسيب وتقعيد العقل الكوني داخل هذه الثقافة. قام كما رأينا على خلفية إيديولوجية وصراع سياسي. فبينما لجأ الخصوم المناوئون للخليفة العباسي إلى العرفان والعقل المستقيل، توجه المأمون إلى العقل الكوني اليوناني ليعزز به جانب المعقول الديني/”البيان”، كما كان قد تقرر وتكرس في الواقع، والواقع السياسي عن طريق المعتزلة. كما تجدر الإشارة إلى أن تطور طبيعة البرهان داخل الثقافة العربية الإسلامية سيكون بدوره محكوما بذلك الصراع بين البيان والاديولوجية السنية، والعرفان والاديولوجية الشيعية.
ومن هنا سيقف البرهان صامدا في وجه العرفان، بل سيتحالف مع البيان ضد هذا الأخير. إن الأستاذ الجابري يحدثنا عن اللقاء التاريخي بين المعقول الديني العربي وبين المعقول العقلي اليوناني- الأرسطي، كلقاء استهدف الوقوف أولا وأخيرا في وجه العقل المستقيل.
فلنختم حديثنا عن الأنظمة المعرفية الثلاثة: “البيان، العرفان، البرهان”، بما يقوله الجابري في كتابه “بنية العقل العربي”: “إذا كان البيان يتخذ من النص والإجماع والاجتهاد سلطات مرجعية أساسية، ويهدف إلى تشييد تصور للعالم يخدم عقيدة دينية معطاة هي العقيدة الإسلامية أو بالأحرى نوعا من الفهم، وإذا كان العرفان يتخذ من الولاية، وبكيفية عامة من الكشف، الطريق الوحيد للمعرفة ويهدف إلى الدخول في نوع من الوحدة مع “الله”، وهذا موضوع المعرفة عند أصحابه. فإن البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية، من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها، في اكتساب معرفة بالكون ككل وكأجزاء. لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك والانسجام ما يلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام على شتات الظواهر، ويرضي نزوعه الملح والدائم إلى  طلب اليقين”(28). (*)
********
الهوامش:
(1)- مواقف عدد15- المرجع السابق – ص 14
(2)- النظام المعرفي كما يقول كمال عبد اللطيف: ” لقد استعمل هذا المفهوم المفكر الفرنسي الكبير ” ميشيل فوكو”
و هو يحدده ب مجموع العلاقات التي تربط في حقبة معينة الممارسة القولية المنتجة لأشكال معرفية أو لعلوم أو لأنظمة صورية…” – نقد العقل أم عقل التوافق – قراءة في أعمال الجابري – سلسلة شراع العدد53 – ص 36
(3)- بنية العقل العربي – المرجع السابق – ص20
(4)- المرجع السابق- ص 14
(5)- المرجع السابق- ص 14
 (6)-  تكوين العقل العربي – المرجع السابق- ص14
(7)- المرجع السابق- ص91
(8)- المرجع السابق- ص129
(9)- المرجع السابق- ص133
(10)- بنية العقل العربي- المرجع السابق- ص245
(11)- بنية العقل العربي – المرجع السابق – ص138
(12)- المرجع السابق – ص145
(13)- المرجع السابق – ص204
(14)- المرجع السابق – ص205
(15)- المرجع السابق – ص239
(16)- عزيز العضمة- التراث بين السلطان و التاريخ- منشورات عيون المقالات- الدار البيضاء – الطبعة الأولى ص 135
 (17)- بنية العقل العربي-  المرجع السابق- ص 251
(18)- المرجع السابق- ص 252
(19)- المرجع السابق- ص 253
(20)- تكوين العقل العربي- المرجع السابق- ص 186
 (21)- بنية العقل العربي – المرجع السابق – ص 253
(22)- تكوين العقل العربي- المرجع السابق – ص 329
(*)- العرفانية:” وهي جملة التيارات الدينية التي يجمعها كونها تعتبر المعرفة الحقيقية بالله و أمور الدين هي تلك التي تقوم على تعميق الحياة الروحية، و اعتماد الحكمة في السلوك، مما يمنح القدرة على استعمال القوى التي هي في ميدان الإرادة ” –  بنية العقل العربي – المرجع السابق- ص 253
(23)- بنية العقل العربي – المرجع السابق – ص 373
(24)-  المرجع السابق – ص 373
 (25)- تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 214
(26)- تكوين العقل العربي- المرجع السابق- ص217
(27)- المرجع السابق- ص329
(28)- بنية العقل العربي – المرجع السابق- ص383/ 384
(*)- تجدر الإشارة إلى أن الجابري لن يعمد في كتبه اللاحقة إلى ذات التمييز بين الأنظمة الثلاثة وإنما سيعمل على استبدالها، فيما يتعلق بنصه “العقل السياسي العربي ب “القبيلة، الغنيمة، العقيدة”

انظر العقل السياسي العربي – محدداته و تجلياته- المركز الثقافي العربي – الطبعة السادسة 2003




الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *