أبحاث
مدخل إلى فكر محمد عابد الجابري ج (5) - المنهج والرُّؤية –
أحمد العطار
أوَّلا: مسألة المنهج في فكر الجابري
د- مسألة الموضوعيّة
والمستويات الثَّلاثة
نأتي في ختام هذا الفصل الَّذي نتناول فيه بعضا من معالم
المنهج الجابري إلى الحديث عن مسألة أساسية، نتوجه إليها بالسؤال عند قراءتنا
للأبحاث التراثية، ونستفسر عن مدى حضورها أوغيابها في وعي الباحث ونتاجه، إنها
مسألة: الموضوعية.
لا غرو أن هذه المسألة تشكل عائقا منهجيا يخرج بالبحث
النظري عن إطاره العلمي المحايد إلى إطار تطغى فيه الذاتوية. فحضور الموضوعية بنسب
متفاوتة يعود في جوهره إلى طبيعة الميدان الذي نقوم فيه بالبحث أو القراءة، فحضور
الموضوعية في العلوم الحقة يفوق حضورها في العلوم الإنسانية. ذاك أن هذه الأخيرة
تتداخل فيها الحدود بين الذات والموضوع إلى حد تصبح فيه الذات موضوعا والموضوع
ذاتا.
فلنرى مدى وعي صاحبنا -الأستاذ الجابري- بهذا الاشكال
المنهجي؟ وكيف ينظر إلى مسألة الموضوعية؟
يطرح الجابري هذا الإشكال على الشكل التالي:” مشكلة المنهج
بالنسبة لموضوعنا -التراث -ليست مشكلة
اختيار بين منهج تاريخي وآخر وظيفي وثالث بنيوي… إلى آخر القائمة. قد يصلح أحد هذه
المناهج في ميدان وقد لا يصلح في ميدان آخر، ولكنها جميعا لا تصلح إلا عندما يكون
الموضوع منفصلا عن الذات، يتمتع باستقلاله النسبي كاملا، فلا يدخل في تكوين الذات
ولا الذات تدخل في تكوينه بكيفية مباشرة. إذن، عندما يتعلق الأمر بموضوع هو نفسه
جزء من الذات والذات جزء منه كالتراث عموما، فإن مشكلة المنهج تصبح حينئذ مشكلة
الوسيلة التي تمكن من فصل الذات عن الموضوع والموضوع عن الذات، حتى يصبح في
الإمكان إعادة العلاقة بينهما على أساس جديد. مشكلة المنهج في هذه الحالة هي أولا
وقبل كل شيء : مشكلة الموضوعية”.(1)
في إطار انشغال الفكر العربي المعاصر للبحث عن طريقة علمية
ملائمة لتعامل مع التراث. شكل المشكل المنهجي أحد أسباب انكفاء هذا الفكر وسقوطه
في براثن الذاتية والقوالب المنهجية الجاهزة، والقراءات الإيديولوجية الفجة.
يعي الجابري هذه الطرائق البحثية التي تعاني إشكال المنهج
وهو الإشكال الذي يعصف بالقراءات التراثية السائدة. فيما يخصه يطرح على نفسه سؤالا
جوهريا : “كيف نبني لأنفسنا فهما موضوعيا لتراثنا ؟ ”
يعمل الجابري في كتابه “نحن والتراث” على تفصيل القول في
الجوانب المنهجية لقراءته التراثية، إذ يعتبر هذا الكتاب وخصوصا المقدمة المنهجية
منه بمثابة المدخل لفكر الجابري ككل.
فما يقصد بالموضوعية؟
نستبق إلى القول – مع الجابري- أن الموضوعية التي يقصدها،
“لا تقف عند حدود المعنى العادي الذي يعني الحرص على عدم تدخل الذات في الموضوع (
الذات مفهومة هنا كرغبات وكميول)”(2)
إن العلاقة القائمة بين الذات العربية وبين تراثها تستلزم
حسب الجابري دائما طرح قضية الموضوعية على مستويين :
_ مستوى العلاقة الذاهبة من الذات إلى
الموضوع، والموضوعية في هذا المستوى تعني فصل الموضوع عن الذات.
_ مستوى العلاقة الذاهبة من الموضوع إلى
الذات، والموضوعية في هذا المستوى تعني فصل الذات عن الموضوع. تحقيق الموضوعية على
المستوى الأول مشروط بتحقيقها على المستوى الثاني.(3)
إن إلحاح الجابري على هذا الفصل يجد تفسيره في أخذه بعين
الاعتبار القارئ العربي. هذا القارئ مؤطر بتراثه مثقل بحاضره. مؤطر بتراثه يعني أن
التراث يحتويه احتواء يفقده استقلاله
وحريته، فهو يتلقى منذ ميلاده هذا التراث على شكل (كلمات، مفاهيم ، لغة ، تفكير
وكخرافات وأساطير…)، أي كمعارف وحقائق وطرائق في التعامل والتفكير، ولذلك عندما
يقرأ العربي نصا من نصوص تراثه يقرأه
متذكرا لا مستكشفا ولا مستفهما. أجل -يقول الجابري – كل الشعوب تفكر
بتراثها، لكن هناك فرق عظيم وبون شاسع
بين من يفكر بتراث ممتد إلى الحاضر خاضع دوما للنقد
والمساءلة والمراجعة، وبين من يفكر
بتراث جامد توقف عن النمو منذ زمن بعيد،
تفصله عن الحاضر مسافة علمية تعد بالقرون. وبالإضافة إلى هذا القارئ العربي مثقل
بحاضره يستمد سنده من تراثه، يقرأ فيه آماله وطموحاته يبتغي أن يجد فيه العلم
والعقلانية والتقدم، وكل ما هو مفقود في حاضره.
لذا تجده – كما يقول الجابري- يسابق عند القراءة الكلمات، بحثا عن المعنى
الذي يستجيب لحاجاته، يقرأ سطرا ويترك آخر، يقرأ شيئا ويهمل أشياء، فيتمزق النص وتتحرف
دلالاته، ويتعسف بقراءته خارج مجاله المعرفي
التاريخي. إن القارئ العربي بعبارة واحدة يقرأ مشاغله في النصوص قبل أن
يقرأ النصوص.
إن فصل الذات عن التراث إذن، هي عملية ضرورية وخطوة أولى
نحو الموضوعية . ومكتسبات العلوم الحديثة والعلوم الألسنية على وجه الخصوص تقدم
لنا طريقة في التعامل الموضوعي مع النصوص بطريقة يلخصها الجابري في قاعدة ذهبية ”
يجب تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ.”
يجب أن نطرح جانبا عند القراءة، كل فهم مسبق مؤسس على دوافع
الرغبات الآنية والطموحات الحاضرة.
أي أن نطرحها بين قوسين ونتعامل مع النص كنص. ذو علاقات
قائمة بين أجزاءه، ونحاول استخلاص معناها، فالتعامل مع النص التراثي بوصفه شبكة من
العلاقات يستدعي إخضاعها لعملية تشريحية دقيقة وعميقة تحوله بالفعل إلى موضوع
للذات، إلى مادة للقراءة.
فصل الذَّات عن الموضوع عملية ضرورية، بيد أنها تبقى خطوة
أولى تمهيدية ، تتبعها أو تباطنها خطوة ثانية على سلم تحقيق الموضوعية . الخطوة
التي تعيد الانطلاق من فصل الموضوع عن الذات، فصلا يجعله يسترجع استقلاليته
وشخصيته وهويته وتاريخيته. أن هذه الخطوة تتأسس على مستويات ثلاث: هي ما سبق أن
أومأنا إليها في بداية حديثنا. وسنعمل الآن على تشريحها.
المستويات الثلاث التي يقصدها الجابري من أجل تحقيق قراءة
متكاملة للنص هي:
1– مستوى المعالجة البنيويَّة: ويقصد بها
الانطلاق في دراسة النصوص كما هي. مما يعني وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا
التراث بين قوسين، والاقتصار في التعامل مع النصوص وحدها.
هذا التعاطي يقتضي محورة فكر صاحب النص حول إشكالية واحدة
تمثل المفتاح الذي يستطيع فك المغاليق واستيعاب التحولات التي يتحرك بها ومن
خلالها فكر صاحب النص، بحيث تجد كل فكرة مكانها الطبيعي (القابل للتبرير) داخل هذا
الكل.
2- التَّحليل التَّاريخي: ويتعلق الأمر أساسا بربط فكر صاحب النص بمجاله
التاريخي بكل أبعاده الثقافية والإيديولوجية والسياسية والاجتماعية. هذا الربط
ضروري لاكتساب فهم تاريخي للفكر المدروس من جهة، ولاختبار صحة النموذج البنيوي –
الذي قدمته المعالجة السابقة – والمقصود بالصحة هنا ليس الصحة المنطقية بل الإمكان
التاريخي الذي يجعلنا على بينة مما يمكن أن يتضمنه النص وما لا يتضمنه، أي ما
يقوله النص وما يسكت عنه.
3- الطَّرح الإديولوجي: أي الكشف عن الوظيفة
الاديولوجية (الاجتماعية- السياسية) التي أداها الفكر المعني أو التي كان يطمح إلى
أداءها داخل الحقل المعرفي العام الذي ينتمي إليه، إنه إزالة للقوسين عن الفترة
التاريخية التي ينتمي إليها النص والتي أخذت حتى المعالجة البنيوية كزمن ممتد.
إن الكشف عن المضمون الاديولوجي لفكر ما، هو الوسيلة
الوحيدة لجعله فعلا معاصرا لنفسه مرتبطا بعالمه.
إنَّ لحظة الموضوعية تقوم على تداخل العمليتين: عملية فصل
الذات عن الموضوع، وعملية فصل الموضوع عن الذات. إنهما تشكلان معا اللحظة الأولى
في المنهج كما يتحدد عند صاحبنا .
– وقد عرضناها بتصرف – ولكن، هل تكفي لحظة
الموضوعية حين القراءة التراثية ؟ هل تكفي لحظة الفصل المزدوجة هذه ؟
الموضوع الذي نقرأه هنا – حسب الجابري – هو التراث . تراثنا
نحن، فهو جزء منا فصلناه عنا وأخرجناه عن ذواتنا . لا لنلقي به بعيدا عنا، أو
لنتفرج عليه أو نتأمله أو حتى نضعه في مكانه من التاريخ. لقد فصلناه عنا من أجل أن
نعيده إلينا في صورة جديدة وبعلاقات جديدة، من أجل أن نجعله معاصرا لنا.
فكيف السبيل إذن لوصله بنا ؟ هذا القول يجرنا إلى الحديث عن
مشكل يطلق عليه الجابري اسم: ” مشكل
الاستمرارية ؟”
إن التراث في نظر الجابري ليس نتاجا تاريخيا وحسب بل هو
عطاء ذاتي أيضا، وهذا العطاء ليس متحررا بشكل كلي من رقابة المجتمع وسلطته المادية
والمعنوية، الرقابة التي تجعله لا يفصح عن نفسه بشكل كامل و مباشر، فيطاله المنع و
تحاصره الرقابة و المصادرة، فيضل هذا العطاء محكوما بل و محصورا في قوالب فكرية و
تعبيرية. في ضل هذا الظرف يصبح للقول ما وراءه أو ما يشكل:
” ما وراء المنطق و اللغة ” أو ” الميتا –
لغة – منطق”، وذلك ما ينبغي كشفه و اختراق حدود لغته و منطقه و سبر أغواره للوصول
إليه و تعريته. يعتمد الجابري في مقاربته
للنتاج الفكري و المتون التراثية ما يسميه ” بالحدس” وهو في جوهره أقرب إلى
الحدس الرياضي لا الحدس البرجسوني و لا الفينو مينولوجي- و الحدس الرياضي باعتباره
رؤية ريادية استكشافية: ” تستكشف الطريق و تستبق النتائج وسط حوار جدلي بين الذات
القارئة و الذات المقروءة” (4). إذ يتم عبر المعطيات الموضوعية التي استخلصت خلال
اللحظة الأولى من المنهج، و بهذا الحدس الاستشرافي تتمكن الذات القارئة من قراءة
ما سكتت عنه الذات المقروءة. حيث تتعرى المفاهيم
” المضنون بها على غير أهلها – بتعبير
الغزالي- وبروز ما وراء الحجب و الأكمة”.
هنا تقرأ المقدمات بنتائجها والماضي بمستقبله وما كان بما
سيكون، فيندمج الموضوعي مع الإيديولوجي ويتحول المستقبل / الماضي، الذي كانت الذات
المقروءة تتطلع إليه إلى المستقبل/ الآتي، الذي تجري الذات القارئة و راءه. فيصبح
المقروء المعاصر لنفسه معاصرا لقارئه “(5). يضرب الجابري أمثلة عدة عن نصوص ومسائل
وعد بها أصحابها ولم يوفوا بكتابتها (الغزالي، ابن رشد، ابن سينا) فكانت من المضنون به على غير أهله. لم يصرح به،
ولم يتعرضوا إليه إلا تلميحا أو رمزا أو من وراء حجاب.
هذا المتخفي / المضنون هو بمثابة “الهو” الذي يجب بحثه
والسعي إلى كشفه وبيانه. وما الطريق إلى ذلك غير الانخراط الواعي في إشكالياته
وهمومه الفكرية” إن الوعي بهذه الأبعاد يجعلنا معاصرين لأسلافنا ويجعلهم معاصرين
لنا على صعيد الوعي الواعي بتاريخيته. ومن خلال هذه المعاصرة المتبادلة تحقق
الاستمرارية استمرارية الوعي من خلال البحث عن الحقيقة”(6)
إن الموضوعية “بما هي إدراك الأشياء على ما هي عليه دون ان
يشوهها نظرة ضيقة أو أهواء أو ميول أو تحيزات أو مشاعر حب أو كره…الخ، وبما هي
إيمان بأن الذهن أو الوعي قادر على إدراك الحقيقة القائمة بذاتها مستقلة عن الذات
المدركة إدراكا كاملا. وأن بوسع الذات أن تحيط بموضوعها دون فرضيات مسبقة أو أهواء
قبلية … بهذه الطريقة نصل إلى تصور موضوعي دقيق للواقع، أو الموضوع الذي يكاد يكون
فوتوغرافيا “(7)
إذا كان هذا هو التعريف الذي نعثر عليه في بعض المعاجم
والأدبيات البحثية لمسألة الموضوعية، فإنها تتأسس عند الجابري على هذا التعريف،
كما تتمفصل لديه عبر لحظات منهجية تقوم على الفصل الذي يقوم بدوره على لحظتين لحظة
الفصل بين الذات والموضوع وبين الموضوع والذات، ثم اللحظة الثانية التي تمر عبر
المستويات الثلاثة. ثم تحين بعد ذلك لحظة الوصل والاستمرارية، لحظة الكشف عن ماوراء الحجاب، ما وراء المنطق واللغة.
إن هذه اللحظات المنهجية في كليتها تمثل حسب الجابري قراءة
علمية للتراث قراءة تنأى به عن السقوط في القراءة اللاموضوعية اللاعلمية بكل
أشكالها وبمختلف تلاوينها.
*********
الهوامش:
(1)- نحن و التراث – المرجع السابق – ص 21
(2)- المرجع السابق – ص 21
(3)- المرجع السابق – ص 22
(4)- المرجع السابق – ص 25
(5)- المرجع السابق – ص 25
(6)- المرجع السابق -ص 26
(7)- ورد في معجم المصطلحات: انظره في كتاب –
الحداثة ومابعد الحداثة- دار الفكر دمشق 2003، ص 326 (حوارات لقرن جديد – عبد الوهاب المسيري وفتحي
التريكي).