أبحاث
مدخل إلى فكر محمد عابد الجابري (3) - المنهج والرُّؤية –
أحمد العطار
أولا: مسألة المنهج في فكر الجابري
ت- القطيعة الابيستيمولوجية
استطرادا منا في هذا المقال الذي نروم من خلاله إلقاء لمحة
عن الجانب المنهجي في فكر الأستاذ الجابري , نضع بين أيدينا مفهوما يشغل مكانة
أساسية و يحتل موقعا مهما في خطاب الجابري. إنه مفهوم : “القطيعة
الابيستيمولوجية”.
وكما يتبدى من خلال التركيبة اللغوية لهذا المفهوم, فهو
يعود إلى الميدان المعرفي المعروف باسم
“الايبيستيمولوجيا”، وكنا قد تناولنا في مقال
سابق هذا الميدان الذي ينهل منه الجابري مفاهيمه و يستمد منه روحه النقدية.
أود قبل أن نعمل على افتحاص هذا المفهوم الإجرائي داخل
الخطاب المنهجي للجابري, أن أشير إلى كون هذا المفهوم قد أثار بدوره – بمثل ما
رأينا مع مفهوم العقل العربي- التباسا وجدلا واسعا من قبل النقاد و المتتبعين,
ذهبت إلى حد اتهام الجابري بالتعصب و الشوفينية للمغرب على حساب المشرق فكان من
الضرورة في هكذا قول أن يرد الجابري ويوضح وجهة نظره – و هو ما سنعود لتفصيل القول
فيه – أما الآن فلننتقل إلى طرح أسئلة تساعدنا على الدخول مباشرة صوب الموضوع.
ما القطيعة الابستسمولوجية؟ ما منبتها الأساس ؟ و كيف يوظف
الجابري هذا المفهوم؟
كما هو معروف أن مفهوم القطيعة الاببستيمولوجية, هو مفهوم
“باشلاري” يعود إلى فيلسوف العلم الفرنسي ” غاستون باشلار” (1884 / 1962) . الذي
استخدمها كما يقول الأستاذ سالم يفوت:” في مستويين:
أولا: من أجل التمييز بين موضوع الواقع أو المعرفية
العامية, و موضوع المعرفة أو المعرفية العلمية. و من أجل التأكيد ثانيا: على أن
تاريخ المعرفة العلمية ليس تاريخا متصلا يحكمه منطق التراكم, بل هو تاريخ الانفصال
و التقطع, إذ بين الفينة و الأخرى تحدث قطيعة بين الجديد و القديم تتمثل في كون
العلم يعيد ترتيب أوراقه و سبك مفاهيمه سبكا جديداً يمكنه من استيعاب الوقائع
الجديدة وتخطي العوائق التي تعترض سبيل سيره و تقدمه.”(1)
لقد تلقف الفيلسوف الفرنسي” لوي التوسير”( 1918-1990) هذا
المفهوم ووظفه في قراءته لأعمال “كارل ماركس” حيث ميز في فكر هذا الأخير بين
مرحلتين: مرحلة النضج و الاختمار، و هي تتمثل في التحول إلى العلم (علم الاقتصاد)،
و مرحلة الشباب المتمثلة في كتابيه” مخطوطات 1844 و الإيديولوجية الألمانية” الذين
يعكسان هيمنة الفلسفة الهيجيلية. وهما مرحلتان تفصلهما في اعتقاد التوسير قطيعة
ابيستيمولوجية بين مرحلتين و بين أسلوبين
في طرح القضايا و تناولها.
“القطيعة الاببستيمولوجية” مفهوم نحته باشلار
فقرأ به تاريخ العلم, و التقفه التوسير فقرأ به ماركس. فكيف وظفه الجابري في
قراءته للتراث العربي؟
استعمل الجابري مفهوم القطيعة الايببستيمولوجية أول مرة
فيما نعلم في كتابه” نحن و التراث” حين قال :” إن تجديد العقل العربي يعني في
المنظور الذي نتحدث عنه إحداث قطيعة ابيستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في
عصر الانحطاط و امتداداتها إلى الفكر العربي الحديث و المعاصر…”(2)
و لمزيد بيان سيقدم الجابري في كتابه السالف الذكر مجموعة
من النقاط الموضحة نجملها على الشكل التالي:
*- إن القطيعة الايببستيمولوجية لا تتناول
موضوع المعرفة و إنما تتناول ” الفعل العقلي”. و الفعل العقلي نشاط يتم بطريقة ما
و بواسطة أدوات هي المفاهيم, وداخل حقل معرفي معين . فقد يظل موضوع المعرفة هو هو,
و لكن طريقة معالجته و الأدوات الذهنية التي تعتمدها هذه المعالجة و الإشكالية
التي توجهها و الحقل المعرفي الذي تتم داخله كل ذلك قد يختلف و يتغير.
*- عندما يكون هذا الاختلاف عميقا وجذريا, أي
عندما يبلغ نقطة اللارجوع/اللاعودة, نقول أن هناك قطيعة ابيستيمولوجية.
*- لا ينبغي أن نفهم القطيعة الابيستيمولوجية
أنها دعوة للتخلي أو القطع مع التراث بل على العكس فهي لا علاقة لها بالأطروحة
الفاسدة المنادية بإلقاء التراث في المتاحف, أو تركه هناك في مكانه من التاريخ. و
إنما هي دعوة للتخلي عن الفهم التراثي للتراث, أي التحرر من الرواسب التراثية. و
على رأس هذه الرواسب القياس الكلامي الفقهي النحوي، في صورته اللاعلمية التي تربط
الجزء بالجزء ربطا ميكانيكيا و بالتالي تعمل على فصل الكل و فصل أجزائه عن إطارها
الزمني المعرفي/الإيديولوجي.
*- إن القطيعة الابيستيمولوجية ليست أبدا
قطيعة مع التراث, بل قطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث, القطيعة التي تحولنا من
كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث.
هذه بتلخيص شديد, أهم النقاط التي تبرز لنا رؤية الجابري و
توظيفه لمفهوم القطيعة الاببستيمولوجية, ولقد ركز فيها على الجانب المذهبي العام,
و سنرى الآن ما يخرج به الجابري من أجرأته لهذا المفهوم في حقل التراث العربي
الإسلامي.
تتمركز الرؤية الجابرية على القول بوجود قطيعة
ابيستيمولوجية بين توجهين و مدرستين فلسفيتين, أحداهما مغربية يتزعمها ابن رشد, و
الثانية مشرقية بريادة ابن سينا.
و تقوم هذه النظرة المركزية التي يجعلها الجابري أطروحة
أساسية في كتابه “نحن و التراث” على أن المدرسة الفلسفية التي قامت على عهد
الموحدين في الغرب الإسلامي هي مدرسة مستقلة تماما عن المدارس الفلسفية في المشرق,
و إذا كنا نلفي القراءات التقليدية المقدمة للتراث تتحدث عن اتصال ووصل بين هاتين
المدرستين باعتبار اللاحق مكملا للسابق من حيث البناء النظري و الإشكالية العامة.
فان الجابري يخرج عن السياق و الرؤية الموجهة لهذه القراءات و يذهب إلى اعتبار
العلاقة بين المدرستين علاقة انفصال و قطيعة ابيستيمولوجية. مبررا ذلك بكون أن لكل
توجه أو مدرسة منهجها الخاص و مفاهيمها الخاصة و إشكالياتها الخاصة كذلك”…لقد كانت
المدرسة الفلسفية في المشرق, مدرسة الفارابي و ابن سينا بكيفية أخص تستوحي أراء
الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة خاصة مدرسة حران و المتأثرة إلى حد بعيد
بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد
كانت متأترة الى حد كبير
ب” الثورة الثقافية” التي قادها ابن تومرت مؤسس دولة
الموحدين، و التي اتخدت شعارا لها:” ترك التقليد والعودة إلى الأصول”, ومن هنا
انصرفت المدرسة الفسلفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة
للأصول … و لفلسفة ارسطو بالذات”(3)
إن الجابري لا يتوانى في التأكيد على الفصل في العروة
الوثقى بين هذين التوجهين فلكل روحه الخاص, ” فالمشروع الفلسفي السينوي قام مثلا
على أساس دمج الفلسفة و الدين, الفلسفة اليونانية في الدين الإسلامي مستعينا
بفلسفة حران المشرقية بينما على خلاف ذلك قام المشروع الرشدي على الفصل بين الدين
و الفلسفة حفاظا لكل منهما على روحه الخاصة,
و من هنا- و خلافا لما كان يعتقده المستشرقون و الباحثون
العرب- فابن رشد ليس استمرار لابن سينا, ولا الفلسفة في الأندلس استمرار للفلسفة
في المشرق, و هو اختلاف يطال المنهج و المفاهيم و الرؤية و الإشكالية. “فالفلسفة
العربية الإسلامية في المشرق كانت لاهوتية الابيستيمي و الإتجاه، بسبب استغراقها
في اشكالية التوفيق بين الفسلفة و الدين، و أن الفسلفة العربية في المغرب و
الأندلس كانت، و مع ابن باجة خاصة، علمية الابيستيمي علمانية الاتجاه بفعل تحررها
من تلك الإشكالية”(4). إن رؤية الجابري إذن تسوغ الانفصال بل و ترفعه إلى مستوى
القطيعة الابيستيمولوجية.
لقد أثار كما سبق أن لمحنا هذا المفهوم جدلا واسعا ونقاشا
أوسع ذهب إلى حد اعتبار صاحب القطيعة الابيستيمولوجية بين المغرب والمشرق
بالإعتصاب للأول على حساب الثاني, بل و نعته بالشوفيني, أو صاحب النظرة التفضيلية
التي تفضل قطرا على آخر, المغرب على المشرق ,المغرب العقلاني الرشدي, و المشرق
اللاعقلاني السينوي . يقول الجابري فيما يتعلق بهذا الاتهام:”…وكما هو معلوم فقد
أثار استعمالي لمفهوم القطيعة نقاشا واسعا في المغرب وجدلا أوسع في المشرق, حيث لم
يكن النقاد هناك على إطلاع على المضمون الابيستيمولوجي لهذا المفهوم. فتوهموا أن
الأمر يتعلق بادعاء قطيعة بين المغرب و المشرق، الشيء الذي أدى ببعضهم إلى حد
اتهامي بالتعصب لبلدي, و أنني صدرت في ذلك عن نزعة شوفينية”(5). و لنفي هذا
الإتهام يقول في موضع آخر:” بصدد المغرب و المشرق أريد أن أرفع التباسا لست أدري
من أين جاء مصدره لدى بعض النقاد, وهو ما قيل من أنني شوفيني مغربي متعصب للمغرب,
أعتقد أن هذا لا أساس له إطلاقا, على الأقل في فكري ووجداني. لا أعتقد أن هناك في
المغرب الراهن أو الماضي من يمارس هذا النوع من الشوفينية, فنحن مدينون للمشرق من
الناحية الثقافية من أول الأمر إلى آخره، و الشرق و الغرب يكونون كلا واحدا في هذا
المجال وهو الثقافة العربية…فأنا لا أتعصب للمغرب على المشرق باعتبار أن ابن رشد
مغربي و ابن سينا مشرقي”.(6)
كثيرة هي النصوص التي يبرئ الجابري فيها نفسه من تهمة
التعصب و الشوفينية, و كثيرة هي النصوص التي تؤكد على الإستعمال الإجرائي لهذه
المفاهيم… فالمفهوم إجرائي/ وظيفي لا غير. ومعنى ذلك أن الهدف منه ليس ما يفهم
منه لذاته, بل ما يثيره من أسئلة و ما يفتحه من آفاق أمام الباحث. و بالتالي
فالجابري كما يقول سالم يفوت” لا ينظر إلى مصطلح القطيعة كغاية في ذاته, بل كمجرد
وسيلة تمكن من فهم أشمل وأعمق لتراثنا”.(7)
وكما يبدو أن قدر الأستاذ الجابري أن يدفع ثمن التعامل
التوظيفي مع المفاهيم التي يخرجها من تربتها الأصلية و يحاول غرسها في تربة
مغايرة, فتغدو هذه-المفاهيم الجابرية- مفاهيم سيئة السمعة تتطلب منه دوما الكشف و
التوضيح و البيان.و يكفينا في هذا الصدد قولته الشهيرة :” لقد تمشرق المغرب، و
تمغرب المشرق”.
في مقال قادم سنتناول مفاهيم إجرائية من داخل متن ” نقد
العقل العربي ” وهي : البيان – العرفان- البرهان.
**********
الهوامش:
(1)- سالم يفوت مقال: الجانب المنهجي في
كتابة الجابري – ضمن مؤلف جماعي بعنوان التراث و النهضة – قراءة في أعمال الجابري
– المرجع السابق- ص45
(2)- محمد عابد الجابري – نحن و التراث-
قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي – الطبعة السادسة 1993- المركز الثقافي العربي-
بيروت / الدار البيضاء – ص 20
(3)- نحن و التراث- المرجع السابق- ص211
(4)- المرجع السابق- ص:9
(5)- مواقف عدد 15 – المرجع السابق – ص 23
(6)- المرجع السابق- ص 108
(7)- سالم يفوت – المرجع السابق ص4