أبحاث
مدخل إلى فكر محمد عابد الجابري (2) المنهج والرُّؤية
أحمد العطار
أولا: مسألة المنهج في فكر الجابري
ب: النقد
الابـيستيمولوجي للتراث
يذهب صاحب مشروع “نقد العقل العربي” إلى اعتبار أن ما ينتظم
أغلب الأعمال المفكرة للتراث هو وقوعها تحت سلطة التحليل و النقد الإيديولوجي، و
بالتالي وقوعها تحت طائلة آفتين: آفة في المنهج وآفة في الرؤية. يقول الجابري في
كتابه ” نحن و التراث : ” إذا نظرنا… إلى القراءات الثلاث ( يقصد القراءة السلفية،
الماركسية، الاستشراقية)… وجدنا أن ما يجمعها من الناحية الابيستيمولوجية أي من
ناحية ” طريقة التفكير” هو وقعها جميعا تحت طائلة آفتين :
*- فمن ناحية المنهج: تفتقد هذه القراءات إلى
الحد الأدنى من الموضوعية.
*- و من ناحية الرؤية: تعاني كلها من غياب
النظرة التاريخية.”(1)
نجد الجابري الواعي بـهذه الطرائق البحثية، يحاول من خلال
إنتاجه الفكري أن يبني عملا تنظيريا مركبا يتجاوز فيه هذه القراءات الايديولوجية –
القراءات التمجيدية أو الإبتخاسية للتراث- اذ سيعمل في خطوته التجاوزية هاته على
استحضار مبضع النقد و التزود بالروح النقدية الابيستيمولوجية.
تندرج أعمال الجابري كما يقول الأستاذ كمال عبد اللطيف: “…
في دائرة جبهة الفكر النقدي في الثقافة العربية المعاصرة. ليس لأنه صاحب أطروحة ”
نقد العقل العربي”… بل لأن مختلف أعماله الفكرية و السياسية تتسم بمنحاها النقدي.
فقد وظف الجابري بعض مناهج الفكر الفلسفي المعاصر, لإنتاج مقالة نقدية في قضايا
الفكر العربي. و سواء تعلق الأمر بالأسئلة التراثية أم تعلق بإشكالات الحداثة و
التحديث… فإن المبضع النقدي يشكل الأداة البارزة في أعماله.”(2).
كما نجد الجابري نفسه في غير ما موضع يتحدث عن اختياره
النقدي ووعيه بضرورة النقد. يقول : ” لأن مشروعنا مشروع نقدي، و لأن قضيتنا التي
ننحاز إليها هي العقلانية…فإن مشروعنا هادف إذن، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد
، بل من أجل التحرر مما هو ميت و متخشب في كياننا العقلي و إرثنا الثقافي. و الهدف
فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها, وتعيد فينا زرعها و لعلها تفعل ذلك
قريبا ” (3).
فما مرجعية هذا النقد وما هي آلياته عند الأستاذ الجابري ؟
قد لا نجانب الصواب إذا ما قلنا أن الجابري ينفتح على
مكتسبات الدرس الفلسفي المعاصر بمثل ما ينفتح على غيره من اللوينات المعرفية (
لسانيات, فللوجيا, سوسيولوجيا, سيكولوجيا,…). بيد أن مفهوم النقد لديه يحيلنا
بدرجة قصوى إلى نتائج الأبحاث و الدراسات الجارية في مجال
” الابيستيمولوجيا”. و ما حضور هذه الأخيرة
كملمح نقدي يتبدى بجلاء في أعمال الجابري,
إلا لكونها تمده بالأدوات المنهجية التي يستطيع بأجرأتها تفحص النصوص و الكشف عنها
بالشكل الذي يكشف عن حقيقتها الموضوعية, و سياقها التاريخي.
فما دلالة مفهوم الابيستيمولوجيا؟
لن نغادر في معرض إجابتنا عن هذا السؤال حدود كتابات
الجابري. بل سنلتمس من كتابه” مدخل إلى فلسفة العلوم” تعريفا يساعدنا على معرفة
هذا القطاع المعرفي, يقول:”Epistémé مصطلح جديد صيغ من كلميتين يونانيتين Epistémologie الابيستمولوجيا ومن
معانيها نقد , علم, نظرية, دراسة…Logos.و ومعناها العلمو بالتالي تصبح الابيستيمولوجيا
كما يعرفها ” أندري لالاند” في معجمه
الفلسفي بكونها: “الدراسة النقدية لمبادئ مختلف العلوم, و لفروضها, و نتائجها ,
بقصد تحديد أصلها المنطقي( لا السيكولوجي), وبيان قيمتها و حصيلتها الموضوعية”(4).
لقد تبلورت أولى الملامح النقدية الابيستيمولوجية عند
الجابري في كتابه ” نحن و التراث”، إذ تضمن هذا الكتاب قراءات غير مسبوقة لبعض
الفلاسفة العرب( ابن رشد, ابن سينا, الفرابي, و ابن خلدون…) وبالتالي تفسير تاريخ
الفكر الإسلامي و منحه قراءة جديدة .
بعد كتابه نحن و التراث (صدر سنة 1980) سيصدر للجابري كتاب
آخر مهم هو كتاب ” الخطاب العربي المعاصر” الذي سيقوم فيه بإعمال النقد الابيستيمولوجي على مادة يعرفها
القارئ المعاصر، أو هي قريبة المنال لديه ” وهو الخطاب النهضوي : السياسي، القومي،
و الفلسفي العربي. و الذي سيقوم الجابري بتفكيكه و دراسته دراسة نقدية تحليلية. و
لقد مثل هذان الكتابان وغيرهما(*) خطوة أولية نحو نقد العقل العربي و التراث
العربي الإسلامي .
لا يخفي الجابري فتقه الكلام في النقد الابيستيمولوجي للعقل
/ التراث العربي. نجده يعبر عن رياديته بقوله :” فعلا لقد أحسست … بضرورة الممارسة
الابيستيمولوجية في الثقافة العربية, و بالذات في بنيتها المكونة لخصوصيتها. أقصد
بذلك بنية العقل المنتج / المستهلك لها. “(4). و في أحد نصوصه نجده يؤكد هذا السبق
حين يقول :” لقد كان علي أن أغامر و أقوم بتدشين القول في نقد العقل العربي ”
النقد الابيستيمولوجي”، فكان الجزء الأول و الثاني من هذا المشروع. و الشيء نفسه
يصدق على الجزء الثالث( العقل السياسي العربي) فقد كان هو الآخر مغامرة، كان
تدشينا للقول في موضوع لم يكن له سلف” (5). و عن الجزء الرابع من مشروع النقد (
العقل الأخلاقي العربي) يصدق نفس القول أيضا فكتابة هذا الكتاب تعني عند صاحبه ”
كتابة تاريخ لم يكتب بعد… تاريخ الفكر الأخلاقي في الثقافة العربية.”(6).
يصب الجابري جام نقده على النقد الايديولوجي. و يعلي من
قيمة النقد الابيستيمولوجي. فقد كرست القراءات الإيديولوجية للتراث ما يسميه ”
الفهم التراثي للتراث”. فالساحة الثقافية لم تشهد أي محاولة نقدية ابيستيمولوجية
“. لقد عرف الفكر الحديث و المعاصر انبعاث ألوان من النقد الايديولوجي بمختلف
أنماطه و على مستويات متفاوتة. و لكنه لم يسبق له أن عرف لحد الآن النقد
الابيستيمولوجي . نعم – يقول الجابري- النقد الابيستيمولوجي مجاله الأساسي الخطاب
العلمي. و لكن يجب ألا ننسى أن مايستهدفه
هذا النقد ليس العلم كإنتاج، بل أدوات إنتاج العلم . أعني المنهج و المفاهيم، و
بكيفية عامة الأدوات و الآليات الفكرية التي يستعملها العالم حين الممارسة
العلمية.” (7)
عند هذا القول يعترضنا التساؤل التالي : هل التراث ككل يدخل في خانة الخطاب العلمي؟
و بعبارة أخرى، إذا كان موضوع الابيستيمولوجيا هو الخطاب و
النظرية العلمية. فهل يدخل التراث في نطاق هذه الأخيرة ؟.
يجيب الجابري عن هذا التساؤل موضحا : ” إذا كانت الابيستيمولوجيا بمعناها
المعاصر تتعلق بالمعرفة العلمية ، فليس بالضرورة أن تكون المعرفة العلمية محصورة
في العلوم الطبيعية و الرياضية و نحوها، فكل معرفة يمكن أن تتصف بهذا الوصف العلمي
و لو بدرجات… تسمى علما. أو يمكن التعامل معها كعلم و يمكن بدرجة من الدرجات أن
تكون موضوع ” توظيف إبيستيمولوجي”. أعني
أنها تكون ميدانا لإنتاج مفاهيم ورؤى جديدة، قد لا تتوفر في العلوم الحقة التي هي
موضوع الدرس الابيستيمولوجي بالمعنى الضيق للكلمة.”(8).
واذا ما نحن أمعنا النظر في هذا التمييز الذي يقدمه الجابري
وجدناه يميز ضمنيا بين الدرس الابيستيمولوجي
– أي الابيستيمولوجيا كعلم موضوعه المعرفة العلمية – و بين التوظيف
الابيستيمولوجي. نعم…- يضيف الجابري- هناك فرق بينهما ” فالدرس الابيستيمولوجي هو
أن ندرس الابيستيمولوجيا و أن نحاول أن نقيم منها علما كما يفعل ” بـياجي” و
آخرون. الابيستيمولوجيا كعلم ليست شغلي الآن. أما مكتسبات هذا الدرس و منجزاته
فاني أحاول أن أوظفها في موضوعي ولكن لا توظيفا قسريا بل توظيفها برجماتيا… و أنا
أحترم موضوع البحث و أحاول بكل جهدي تجنب السقوط تحت إغراء المفاهيم الجاهزة. (9)
يمكن أن نقول هنا مع الأستاذ سالم يفوت : ” أن الابيستيمولوجيا
لم تمثل قط بالنسبة للأستاذ الجابري هدفا في حد ذاته وغاية في ذاتها، بل هي أداة
أو وسيلة. لذا طغى على تعامله معها الطابع – الوظيفي- التوظيفي”(10).
إن هذا التعامل الوسيلاني كان الغرض منه توظيف مكتسبات
الدرس الابيستيمولوجي حين الحفر في القارة التراثية. فالنقد الابيستيمولوجي يسمح بالكشف عن طرائق التفكير التي تنتج الخطاب
التراثي، القديم منه والمعاصر. أي أنه يتجه بالأساس إلى الفعل العقلي اللا شعوري
الذي يؤسسه. “إن نقد الأطروحات الإيديولوجية عندما يغفل الأساس المعرفي الذي تقوم
عليه، هو نقد إيديولوجي للإيديولوجيا وبالتالي هولا يمكن أن ينتج سوى إيديولوجيا.
أما نقد طريقة الإنتاج النظري أي “الفعل العقلي” فهو وحده الذي يمكن أن يكتسي
الصبغة العلمية ويمهد الطريق بالتالي لقيام قراءة علمية واعية” (11)
يجرنا هذا الحديث إلى طرح الإشكال التالي : إلى أي مدى
يمكننا النقد الابيستيمولوجي من الخروج من قوقعة النقد الإيديولوجي ؟ أو بعبارة
ثانية إلى أي حد يمكن تلافي أن يكون النقد الابيستيمولوجي موجها بالهاجس
الايديولوجي؟ أو ما هي حدود التداخل والتفاصل بين الإيديولوجي و الابيستيمولوجي في
خطاب الجابري؟
لا مراء أننا نجد الجابري في غير ما موضع في كتاباته يعلن
براءته من النقد الايديولوجي فنجده مثلا يقول :” لقد استبعدنا مضمون الفكر العربي…
وبعبارة عامة الإيديولوجية من مجال اهتمامنا و حصرنا – محاولتنا هذه – في
الايبيستيمولوجي…”(12).
لكن ، إلى أي مدى تتحكم الموجهات الإيديولوجية – بمعنى
الدعوة إلى توظيف الجوانب الإيجابية من التراث و الثقافة المعاصرة للانخراط في
الحداثة و تحقيق النهضة المأمولة- في القراءة النقدية العلمية للتراث ؟
تبدو هذه التساؤلات مآزق نظرية تحيط بالجابري , إلا أن منفده
منها يتحدد من خلال اعترافه بأن ” الشاغل الايديولوجي- شاغل النهضة وتوظيف التراث,
أوجعله حاضرا في النهضة العربية المعاصرة- هذا الشاغل الذي عبرت عنه أول مرة في
دراسة عن الفارابي(*). قلت فيها ما معناه أننا لا نستطيع أن ننظر إلى موضوعات
التراث نظرة محايدة لا مبالية. فالهاجس الايديولوجي حاضر فينا دوما عندما نكون
إزاء موضوع من موضوعات التراث- الموضوع منا ونحن منه-. بل أنا لا أعتقد أنه من
الممكن البحث في الإنسانيات عموما بدون حاضر ايديولوجي صريح أو ضمني. وحتى ذلك الذي يدرس المجتمعات البدائية, و الذي يفصل
عنها فصلا يكاد يكون مطلقا لأنه يتعامل معها كأشياء معطاة هناك, حتى هذا الباحث
ينطق بإيديولوجية إما صريحة أو ضمنية. كلنا نعرف أن الأبحاث الانـثروبولوجية
الغربية كان لها خلفيات استعمارية…أما نحن العرب فإن قدرنا أننا نعيش في فترة
نتحدث فيها عن النهضة و نحن في حاجة إليها. أي أننا نتحدث بهاجس تحقيقها. و إذن
عندما ندرس التراث أو الفكر الغربي أو
بالعبارة السائدة عندما نأخذ من هنا
وهناك… فإننا نفعل ذلك لكي نبني ذاتنا, لكي نطور وعينا…أما السؤال الذي يقول: إلى
أي حد يمكن تلافي أن يكون الايبيستيمولوجي موجها بالهاجس الايديولوجي, هذا السؤال
في نظري ليس سؤالا ابيستيمولوجيا, بل هو سؤال إيديولوجي. ومادام السؤال ايديولوجيا
فاعتقد أن الجواب الصريح عنه هو وعي السؤال نفسه, أي وعي أننا لا يمكن أن نقوم
ببحث علمي مجرد في التراث, بدون أن يكون هناك دافع أيديولوجي. وأن هذا الدافع كما
قلت مرارا, يجب أن نعيه و نتصرف على ضوئه بوعي. ذلك خير ألف مرة من أن نغفله،
فنتحدث حديثا اديولوجيا ونحن نعتقد أننا براء من الايديولوجيا. إذن إن قدرتنا على
التحرر من الهاجس الايديولوجي كامنة في مدى وعينا بحضوره الحتمي في عملنا, في
أسئلتنا و أجوبتنا. و أيضا في مدى وعينا بضرورة التحرر منه أعني التحرر من حضور
الايديولوجيا وعدم الاستسلام لها استسلاما كليا (13).
إننا نلفي الجابري في هذه السطور يقر صراحة بحضور
الايديولوجيا في خطابه, لكنه حضور واعي. فوعي الباحث في الحقول الإنسانية بمختلف
شعابها بإتيان الفعل الايديولوجي هو الذي يمنحه القدرة على التحرر من ذات الفعل.
فاستحضار الهاجس الايديولوجي حين المقاربة البحثية, خير من الإستبراء منه. فقد
يدعي مدع بأن الكتابة في الشأن التراثي هي كتابة علمية ابيستيمولوجية محضة. وفي
ذات الوقت يغرق حتى أخمصه في التوجيه الايديولوجي ” إن التراث أشبه ببئر
ايديولوجية, لا يمكن أن يطلع ماؤها رقراقا بدون ايديولوجيا.”(14).
ان المطالع لكتابة الجابري(كتابا كان أو مقالة أو حوار)
يجدها تنصب في جدول واحد ، يمكن أن نقول عنه أنه جدول النقد و النقد
الابيستيمولوجي الواعي بخلفيته الايديولوجية وهاجسه النهضوي.
إن أعماله كما يقول الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي تظهر – بهذا – واضحة الهدف أحادية المرمى.
نجد داعية النقد يرى- بل يسلم- بأن النقد
ذو ضرورة ملحة في كشف و فحص الثقافة العربية و الإسلامية القديمة منها و المعاصرة.
هذا النقد الفاحص لمرتكزاتها المعرفية و النابش في تاريخها و الكاشف لتصوراتها
وآلياتها و مفاهيمها. يتحدد ويتأطر من هذه
الزاوية عند الأستاذ الجابري – كما رأينا- بأفقه الابيستيمولوجي لا غير. لا يرمي
هذا النقد إلى الإدانة و التمجيد أبداً فذاك من شأن النقد الإيديولوجي الذي يهدف
إلى إبطال ( أو تزكية) مذهب الخصوم والمناوئين والتنويه بآخر، و إنما النقد
الابيستيمولوجي تشريح يتوخى الموضوعية حتى في أقصى درجاته عنفا وقوة . فهذا النقد
لا يهدف إلى” تجريح” إيديولوجيا معينة ، بقدر ما يرمي على العكس إلى “اجتراح” وسبر
الأداة المنتجة للاديويلوجيا. و اذا كنا قد أوضحنا سلفا أن كل نقد لا بد له أن يقوم على هاجس ايديولوجي فان هذا
النقد يمس فعلا هذا الأساس. و لكن لا بوصفه هذه الايديولوجيا أو تلك . بل بوصفه –
فقط – الأداة المنتجة للايديولوجيا.
نستطيع إجمالا أن نقول أن النقد الايديولوجي يخاطب الوعي .
والوعي الاجتماعي بصفة عامة، يخاطبه كي يزيفه أو لكي يصححه. أما النقد
الابيستيمولوجي فهو لا يخاطب هذا الوعي، و لا يريد إقرار تصورات أو نظريات. بقدر
ما يبغي التنقيب عن الأداة المنتجة لها و تعريتها. أن الفرق بين الناقد
الإيديولوجي و الناقد الابيستيمولوجي- كما يقول الجابري- كالفرق بين الناظر
للشجرة, لثمار الشجرة، و الناظر لجذور الشجرة. فلكل واحد منهما رؤية مختلفة، و من
الصعب أن يقبل الواحد منهما التحول إلى موقع الآخر، ذلك لأن مطلب كل منهما يختلف
عن الآخر .
بقي علينا في ختام هذا الفصل-الذي تناولنا فيه النقد
الايبيستيمولوجي باعتباره قراءة معاصرة لتراثنا العربي كما ينكشف في منهج الجابري- أن نؤكد على أن هذا النقد يستهدف
في أساسه التغيير ” لكن لا تغيير مجتمع الذي يعكسه الفكر بل تغيير الفكر من أجل أن
يسهم في تغيير المجتمع ، في إدراك مكوناته و ثوابته و متغيراته “.(15)
أن الجابري يتقصد الفكر بالنقد، الفكر الذي يؤثر في الواقع
و يساهم في تطوير المجتمع . ونحن نتوسم أنه بهذا يشير إلى أن مجال النقد يتأطر
بالبنية الفوقية – حسب اللغة الماركسية- التي تحدد أو تؤثر بالتالي في البنية
التحتية. إن النقد الايبيستيمولوجي يستهدف حسب الجابري نقد السلاح كي يمارس هذا
السلاح النقد الإيديولوجي المطلوب الذي يستهدف التغيير الاجتماعي .
و حاصل القول إن نقد العقل مرتهن عند صاحب هذا المشروع
بالنقد الابيستيمولوجي . إنه قراءة في التراث تريد لنفسها أن تكون علمية واعية
معاصرة، ومادمنا نحن العرب اليوم نستشعر على مستوى وعينا مسافة طويلة تفصل بيننا و
بين تراثنا . فان مهمة النقد الابيستيمولوجي للتراث هي بالضبط تقليص هذه المسافة
إلى أقصى حد.
إن “النقد الابيستيمولوجي ” هو الوسيلة المناسبة التي تتيح
لنا عند استثمارها على أحسن وجه استيعابا أفضل لمكاسب الماضي و الحاضر و المستقبل.
مكاسب التراث و الحداثة و النهضة العربية الشاملة.
في المقال القادم سنتناول مفهوما إجرائيا منهجيا له أهميته
داخل المشروع الجابري هو :” القطيعة الابيستيمولوجية “.
********
الهوامش :
(1)- الجابري – نحن و التراث- قراءة معاصرة
في تراثنا الفلسفي – الطبعة السادسة 1993- المركز الثقافي العربي- بيروت / الدار
البيضاء – ص 16
(2)- كمال عبد اللطيف – مقدمات لقراءة أطروحة
نقد العقل العربي- ضمن مؤلف جماعي بعنوان: التراث و النهضة… قراءة في أعمال
الجابري- مركز دراسة الوحدة العربية – ط الأولى2004 – ص 11
(3)- الجابري- تكوين العقل العربي- دار النشر
المغربية – الدار البيضاء – الطبعة الثامنة – ص 7 / 8
(*)- نحيل هنا بالخصوص إلى كتبه: العصبية و
الدولة- معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي 1971
وهي أطروحة دكتوراه دولة في الفلسفة…- أضواء على مشكل
التعليم بالمغرب1973…- من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية و التربوية1977
(4)- الجابري – مواقف- العدد 21- دار النشر
المغربية – الدار البيضاء – الطبعة الأولى- ص 89
(5)- الجابري – العقل الأخلاقي الغربي –
المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- الطبعة الثانية 2001 – ص7
(6)- العقل الأخلاقي العربي – المرجع السابق-
ص56
(7)- مواقف العدد21 – المرجع السابق- ص90
(8)- مواقف عدد 21 – المرجع السابق – ص90
(9)- المرجع السابق ص 37
(10)- سالم يفوت – مقال:الجانب المنهجي في
كتابة الجابري – ضمن كتاب التراث و النهضة-المرجع السابق ص43
(11)- نحن و التراث- المرجع السابق- ص16
(12)- تكوين العقل العربي – المرجع السابق ص
15
(*)- يقول الجابري:”و بعد. فهذا مجرد مشروع لقراء جديدة لفلسفة الفارابي السياسية و الدينية.إنها قراءة
إيديولوجية و لاشك. و لكن, هل توجد قراءة بريئة حقا ؟ إنه لأفضل ألف مرة أن نحاول
قراءة تراثنا قراءة إيديولوجية تريد أن تكون واعية. من أن نستمر في قراءته قراءة
إيديولوجية غير واعية, قراءة مزيفة مقلوبة “.-
نحن و التراث- المرجع السابق- ص83
(13)- مواقف عدد 19 – المرجع السابق- ص33/
34/ 35 بتصرف
(14)- المرجع السابق – ص36
(15)- مواقف عدد 20- المرجع السابق- ص89