جاري تحميل ... مدونة المفكر

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

أبحاث

مدخل إلى فكر محمد عابد الجابري (1)



- المنهج و الرؤية

أحمد العطار
تهدف هذه الدراسة إلى محاولة تقديم ما يمكن أن نسميه خطاطة عامة  أو مدخلا إلى فكر المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” من خلال تحديد البنية المفاهيمية التي  تؤطر مشروعه الفكري أو مستوى المنهج في ذات الخطاب ( كمفهوم العقل العربي  و النقد الابيستيمولوجي و النظام المعرفي  …)، كما سنسلط الضوء على مضمون هذا الخطاب و تجلياته في ما اصطلح عليه مستوى الرؤية
التي تشكل مقولة النهضة و الحداثة و العقلانية مقومها الأساس.

أولا : مسألة المنهج في فكر الجابري :

                      أ-  ا لعقل العربي… بأي معنى ؟   

يتأطر المشروع الجابري في مفاصله الكبرى و في مبغاه الأول بنقد العقل العربي كما تشكل داخل سياق الثقافة العربية الإسلامية. و لعله يمكننا القول أن مفهوم العقل العربي قد أثار نقداً و استشكالا و لبسا لدى القارئ، و سيحاول هذا المقال استجلاء دلالة هذا المفهوم باعتباره يندرج ضمن المفاهيم الإجرائية التي اعتاد الجابري على تطويعها و أقلمتها لتتناسب مع الموضوع المفكر فيه بعدما استقاها من ميادين معرفية متعددة و متباينة.
يستهدف المتن الفكري  للأستاذ الجابري  قارة التراث العربي الإسلامي في بعدها العالم. إنه  نقد ” العقل” الكامن خلف – و الحامل لهذا التراث – . إن نقد العقل جزء أساسي لا محيد عنه لكل مشروع يتغيى التجديد و يبغي الظفر بالنهضة و التحديث. ” و هل يمكن بناء نهضة بدون عقل ناهض ؟ عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته و مفاهيمه و تصوراته و رؤاه ؟”(1)
يدخل مفهوم” العقل العربي” ضمن قائمة المفاهيم الإجرائية التي استقاها الجابري من حقول معرفية شتى، و عمل بالتالي على أقلمتها و تطويعها و تبيئتها، بالشكل الذي يجعلها قادرة على فتح مغاليق الخطاب و الكشف عن آلياته وأسسه. من هذه المفاهيم: ( القطيعة الابيستيمولوجية، اللاشعور المعرفي، الاستقلال التاريخي، النقد الابيستيمولوجي، النظام المعرفي…) وغيرها كثير. و الجابري “إذ يفيد من العقلانيات الحديثة و يتسلح بمناهج نقدية عصرية… فهو يحسن توظيفها بالعمل على تكييفها وإعادة إنتاجها في معرض اشتغاله على موضوع بحثه … انه ينجح في أقلمتها و تعريبها على نحو يتيح له المساهمة في تحديث اللغة و تجديد الفكر في آن معاَ، كما ينم عن ذلك خطابه.”(2)
في كتابه” الخطاب العربي المعاصر”(3). يقول الجابري: “ميدان و احد لم تتجه إليه أصابع الاتهام بعد ، وبشكل جدي و صارم ، هو تلك القوة أو  الملكة التي بها يقرأ العربي ويحلم و يفكر و يحاكم… إنه العقل العربي ذاته.(4)
وفي خاتمة الكتاب نجد الجابري يدعو – بعد استخلاصه لما يمكن تسميته بأوجه النقص و ضروب القصور و بتعبير ‘ غاستون باشلار’ العوائق الابيستيمولوجية التي تقف حاجزا أمام نهضة العقل العربي. و التي يجملها في( هيمنة النموذج السلف، رسوخ آليات القياس الفقهي، التعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات  واقعية ، توظيف جوانب النقص في المعرفة بالواقع) … تلكم هي الخصائص الأساسية للخطاب العربي الحديث و المعاصر (5).
قلت يدعو الجابري اليوم ” أكثر من أي وقت مضى إلى تدشين ” عصر تدوين جديد” تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح… نقد العقل العربي.”(6)ليس ثمة شك، في أن و عي الأستاذ الجابري و إيمانه بضرورة نقد العقل العربي كان يساوقه و يباطنه وعي بما سيثيره هذا المفهوم من انتقادات عدة، و اعتراضات جمة، و لبسا كان لا محالة واقع. نجده يعبر عن ذلك بقوله: ” إن عبارة العقل العربي التي جعلناها عنوانا لهذا الكتاب- المقصود تكوين العقل العربي- ستثير في ذهن القارئ، الفاحص لما يقرأ، أكثر من سؤال. هل هناك عقل “خاص ” بالعرب دون غيرهم؟ أو ليس العقل خاصية ذاتية للإنسان أي إنسان. تميزه و تفصله عن الحيوان؟ وهل يتعلق الأمر، و من جديد بذلك التمييز الذي أقامه بعض المستشرقين و المفكرين الأوروبيين في أواخر القرن الماضي و أوائل هذا القرن  بين ” العقلية السامية ” (التجزيئية، الغيبية )، و ” العقلية الآرية “( التركيبية، العلمية)؟. أم أن الأمر يتعلق هذه المرة أيضا ب ” سر ” جديد من الأسرار التي لا يفتأ العرب المعاصرون يكتشفونها في أنفسهم . و يقرؤون فيها عبقريتهم و أصالة معدنهم.(7)
من نافلة القول. الإشارة إلى أن حدوس الجابري هذه و تخوفاته من طرح هذه التساؤلات – التي يذكرها وغيرها مما لا يذكر- قد تحققت و تبلورت، بل وتصاعدت في أشد صورها نقدا و اعتراضا من مقال إلى دراسة إلى كتيب، فكتاب فمجلد فأكثر. جلها تناولت مفهوم العقل العربي وغيره من مجمل فكر الرجل ووضعته موضع سؤال و نقد، و تصويب وتشريح و تحليل… وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، و قبل أ ن نخوض في ما يرميه الجابري من مقولة ‘العقل العربي’ و ما يتقصد منه. لا بأس أن نعرج لإثارة إحدى الانتقادات التي تذهب إلى حد اتهام الجابري بأنه لا يعي التمييز بين العقل و العقلية. و بالتالي فالجابري “يكتب عن العقل و لا يكتب به”.
في مقال للكاتب والمفكر التونسي ” العفيف الأخضر” بهذا العنوان- السابق- يقول”… وهذا ما فعله الجابري بصدد العقل و العقلية – الذهنية – الذين أصبحا عنده مفهومين متداخلين كلعبة العرائس الروسية. والحال أن الفرق بينهما جلي، العقل كلي وكوني، يسلم به كل ذي عقل سليم. و العقلية خاصة بجماعة معينة ( قبيلة، أمة، طبقة اجتماعية مثلا ) صاغت وعيها الثقافي بعادات و تقاليد وأنماط في السلوك خاصة بها.”(8). وفي موضع آخر ينتقل ‘الأخضر’ ليآخد على الجابري استعماله لمفاهيم تنتهك مبدأ عدم التناقض العقلي. “… فعندما يقيم الجابري تماثلا بين العقل و اللاعقل، أي العقل اللاعقلي أو العقل العرفاني أي في نظره العقل المضرب عن التفكير العقلاني…” يكون الجابري بذلك يمارس عبثا مرفوضا من قوانين العقل ذاته أي مبادئه. العقل- حسب العفيف الأخضر- إما أن يكون عقلا عقلانيا أو لا يكون…أمام اللامعقول نكون أمام عقل لم يولد بعد – كما كانت اليونان زمن الأسطورة في قرن 6 ق م-. أو أمام عقل – في الحالات الفردية – هو من اختصاص الطب العقلي لا الفلسفة… “(9).
يرجع الأخضر لا عقلانية الجابري و تناقضات فكره بالأساس – على حد قوله – إلى كون صاحبنا – الجابري – يفتقر إلى معرفة ودراية بعلم نفس الأعماق، وجهله بالتقدم الفلسفي و العلمي .ليس من شأننا ها هنا التطرق لمعرفة الجابري أو لا معرفته، ووضعها على المحك. و إنما يعنينا تمحيص هذا النقد الموجه للجابري وبيان موضوعيته .
فهل يجد هذا القول أو هذا النقد ما يبرره أو ما يفنده في خطاب الجابري وكتاباته؟ أم هو بالفعل تناقض سقط فيه الرجل، و عائق معرفي يعتقل عقله، فيخرج به عن التفكير العقلاني و التماسك المنطقي. أم لعلها تكون كبوة من كبوات جواده؟ . سؤال نرجئ الإجابة عليه، لحين و وضوح الصورة. صورة ما يقصده الجابري ب ” العقل العربي “.
ذكرنا سلفا أن الأستاذ الجابري قد ختم كتابه ” الخطاب العربي المعاصر” بالقول ” أن الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تدشين عصر تدوين جديد تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح ، نقد العقل العربي “. و الحق أن الجابري لم يترك قارئه نهبة لتكهناتو تساؤلات لما يقصده بهذا المفهوم. و إنما سارع في كتابه اللاحق” تكوين العقل العربي” في فصله الأول المعنون ب ” عقل… ثقافة ” – من القسم الأول العقل العربي… بأي معنى – لبيان مرماه و تعريفه و تحديده لذات المفهوم.
يفتتح الجابري الفصل الأول من كتاب التكوين بالإشارة إلى أن نقد العقل جزء أساسي و أولي من كل مشروع للنهضة. ثم نجده ينتقل بعد هذا لإقامة تمييز بين ” العقل “و” الفكر”. مذكرا أنه كان من الممكن تفادي مجموع التساؤلات و الانتقادات لو تم استعمال كلمة فكر بدل كلمة عقل. بيد أن الجابري يعود ليبين سبب تلافي هذا الاستعمال إذ يقول ” لو فعلنا لساهمنا في إعطاء القارئ لعنوان الكتاب فكرة أبعد ما تكون عن مضمونه الحقيقي.”(10). إن صاحبنا يضع نصب عينيه ترادف الاستعمال الشائع لكلمة فكر و التي تعني” مضمون الفكر ومحتواه، أي جملة الآراء و الأفكار و النظريات التي يعبر بها ومن خلالها – شعب – عن اهتماماته ومشاغله. و أيضا عن مثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية”(11) ترادفها- كلمة فكر- مع معنى ” مفهوم الايديولوجيا”. فالفكر و الايديولوجيا بهذا المعنى سواء، هما وجهان لعملة واحدة.” و هذا بالضبط أحد أنواع الخلط الذي نريد تجنبه، و التنبيه عليه منذ البداية.”(12)
إن هذا التداخل والاندغام القائمين الفكر و الإيديولوجيا، يناظره اندغام آخر يقوم داخل مفهوم الفكر ذاته، تداخل بين الفكر كأداة لإنتاج الأفكار، والفكر بوصفه مجموع هذه الأفكار. وإن شئنا الدقة قلنا الفكر كأداة و الفكر كمحتوى.
إن هذا التداخل الصميمي بين هذين المستويين مستوى الفكر والايديولوجيا، ومستوى الفكر كأداة و الفكر كمحتوى- على صعيد الفكر ذاته- هو واقعة لا جدال فيها، و عروةوثقى لا انفصام لها. لا تفوتنا هنا الإشارة إلى اعتبار الفكر- لا بوصفه كأداة أو كمحتوى- ، هو دوما ودائما ” نتيجة الاحتكاك مع المحيط الاجتماعي/ الثقافي خاصة “(13)
يحيلنا الجابري إلى الأهمية القصوى لهذا المحيط – الاجتماعي الثقافي – في تكوين خصوصية الفكر إلى مثال ” الفكر العربي “. فهذا الأخير هو عربي “… ليس فقط لكونه تصورات أو أراء و نظريات تعكس الواقع العربي أو تعبر عنه بشكل من أشكال التعبير، بل لأنه أيضا نتيجة طريقة في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي نفسه. بكل مظاهر الخصوصية فيه.” (14).
بعد أن ميزنا مع الجابري بين الفكر- سواء بوصفه أداة للتفكير أو بوصفه الإنتاج الفكري ذاته. صار بإمكاننا أن نرتقي درجة أخرى على سلم توضيح المقصود من استعمال مفهوم” العقل العربي “. إننا نجد الجابري يسارع بإلقاء تحديده الأولي حين يقول ” نستطيع الآن أن نحدد مفهوم ألعقل العربي كما سنتناوله بالتحليل و الفحص في هذه الدراسة، تحديدا أوليا فنقول أنه ليس شيئا آخر غير هذا الفكر ذاته الذي نتحدث عنه، الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات.”(15)بهذا التعريف الأولي يصبح العقل كما يفهمه الجابري هو: ” الأداة المنتجة للأفكار”،لا مجموع هذه الأفكار ذاتها. ويبقى مع ذلك هذا التعريف قاصرا، يحمل عيوبه بين جنباته.
كما يشير إلى ذلك صاحبنا نفسه-  فهو يعتبر هذا التعريف الإجرائي مع كل عيوبه خطوة تنقلنا من التحليل الإيديولوجي إلى مستوى التحليل الابيستيمولوجي. الذي يتخذ موضوعا له أدوات الإنتاج الفكري، لا منتجات هذه الأدوات .
رغم استشكال التعريفات. و إلى حين انجلاء هذه الضبابية، نشير إلى أن العقل العربي في هذا المستوى” لا يتصل في جوهره بصلة بكل ما هو خارق للعادة كالعبقرية العربية مثلا… بل هو وثيق الصلة بالفكر من حيث هو أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، ثقافة تحمل معها – و بين طياتها- تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه… كما تعكس و تعبر في ذات الوقت عن عوائق تقدمهم و أسباب تخلفهم الراهن.”(16)
يعود الجابري أدراجه، متسائلا إن كانت هذه التحديدات كافية و هذا التوضيح الأولي تاما. “… وهل يكفي – في هذه الحدود – استبدال كلمة ” فكر” بكلمة ” عقل” و تبرير نسبتها إلى العرب و القول بالتالي ” عقل عربي”. إن ترجمة كلمة عقل بعبارة الفكر بوصفه أداة للتفكير وربط عروبة هذا العقل بالثقافة التي ينتمي إليها( الثقافة العربية الإسلامية)” (17). هي حسب الجابري خطوة أولى ما في ذلك شك، نحو تحديد معنى العقل العربي. خطوة يجب أن يليها بيان الحدود الرابطة و الفاصلة بين العقل باعتباره “أداة” و العقل باعتباره”محتوى” وفي هذا الصدد تقفز إلى السطح تساؤلات مهمة. هل يجرنا القول بأن العقل هو الفكر ذاته بوصفه أداة إلى اعتبار العقل خال هو نفسه من كل محتوى؟ أو ليست الأداة أي أداة عبارة عن شيء مركب… أو ليست عبارة عن جهاز أو بنية؟  ثم ألا يمكن التمييز في كل أداة أو جهاز بين الفاعلية، و ما منه قوام هذه الفاعلية ؟ “.(18)
ولتسليط الضوء على هذه التساؤلات سيلتمس الجابري ويستعير من الفيلسوف الفرنسي ” أندري لالاند Lalande ” تمييزه بين “العقل المكوِّن” أو الفاعل constituante la raison  و “العقل المكوَّن” أو السائد  la raison constituée. الأول ” يقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث و الدراسة والذي يصوغ المفاهيم و يقرر المبادئ. و بعبارة أخرى إنه الملكة التي يستطيع به كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية و ضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس”، أما الثاني فهو ” مجموع المبادئ و القواعد التي نعتمدها في استدلالا تنا “، وهي على الرغم من أنها تميل إلى الوحدة فإنها تختلف من عصر لآخر، كما قد تختلف من فرد لآخر. يقول لالاند ” إن العقل المكوَّنو المتغير ولو في حدود، هو العقل كما يوجد في حقبة زمنية معينة. فإذا تحدثنا عنه بالفرد فانه يجب أن نفهم منه العقل كما هو في حضارتنا و في زماننا “، و بعبارة أخرى أنه ” منظومة القواعد المقررة و المقبولة في فترة تاريخية ما و التي تعطي لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة.”(19).
بعد هذا التمييز بين العقل المكوِّن و العقل المكوَّن الذي يتبناه الجابري، يصبح العقل العربي بعبارة أندري لالاند هو العقل المكوَّن أي ” جملة المبادئ و القواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة. أو لنقل تفرضها عليهم كنظام معرفي. ” أما العقل المكوِّن – كنشاط ذهني أو ملكة إنسانية- فسيكون هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان أي القوة الناطقة باصطلاح القدماء”.(20)
بهذا المعنى يكون العقل المكوِّن عقل كلي” تشاركي” يشترك فيه الفرد مع جميع الناس. و العقل المكوَّن عقل “انفرادي” جزئي/خاص، ينفرد به الإنسان و من ينتمي معه إلى نفس الجماعة الثقافية، و الذي هو عبارة عن ” النظام المعرفي ” بما هو تصورات و مفاهيم مؤسسة للثقافة… لا يفوتنا و نحن بصدد التمييز أن نثير علاقة التداخل، و التأثير و التأثر المتبادل بينهما، فمن جهة ليس العقل السائد شيئا آخر غير تلك المبادئ و القواعد التي أنشأها وينشأها العقل الفاعل.” إن كل عمل نقدي ابيستيمولوجي لابد له أن يراعي هذا الإزدواج و هذا التداخل”(21).
لقد حاولنا من خلال هذه السطور تتبع الخطوات التي يرسمها الجابري: ( تمييزات – تداخلات – تعريفات…) لمفهوم ” العقل العربي”. وسنعمل الآن على إيراد تلخيص مجمل لما سبق ذكره، نستمع إليه على لسان باحث و مفكر معاصر، وثيق الصلة بالفكر الجابري، ناقد له ،محلل و محاور. إنه الدكتور” طه عبد الرحمان” يقول:” يرى – الجابري – أن مشروعه التقويمي يقتضي أن يكون موضوع اهتمامه ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتجة لهاته الأفكار، ولو أن التداخل بين الفكر كأداة لإنتاج الأفكار والفكر بوصفه مجموعة الأفكار تداخل صميمي وواقعة لاجدال فيها. ويعلل اصطناعه هذا التمييز بين أداة الفكر وهي مجموع المفاهيم و المبادئ والقواعد التي تؤسس هذا الفكر، وبين محتوى هذا الفكر وهو جملة المضامين التي يتشكل منها هذا الفكر. بكون الهدف الأساسي الذي رسمه لأعماله هو بناء نظرية في ” العقل العربي ” بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها هي الثقافة العربية. و بهذا الاعتبار يكون هدفه مندرجا في مجال البحث الابيستيمولوجي أو باصطلاحنا في مجال ” فقه العلم” الذي يتخذ موضوعا له على حد قوله أدوات الإنتاج الفكري، لا منتجات هذه الأدوات”(22).
لقد صار بامكاننا بعد سلطنا قبسا من الوضوح والانكشاف على مفهوم” العقل العربي”، أن ننتقل خطوة أخرى نستثمر من خلالها ” منهجا مقارناتيا” بين العقل العربي والعقل اليوناني والعقل الأوروبي… لماذا هذين العقلين فقط ؟ سؤال لا يعدم الجابري إجابة عنه. إن اليونان والأروبيين يمكن القول” عنهم أنهم و حدهم مارسوا التفكير النظري العقلاني بالشكل الذي يسمح بقيام معرفة علمية أو فلسفية أو تشريعية منفصلة عن الأسطورة و متحررة إلى حد كبير من الرؤية الإحيائية التي تتعامل مع أشياء الطبيعة كأشياء حية ذوات نفوس تمارس تأثيرها على الإنسان و على إمكانياته المعرفية”.(23)
لاغرو أننا حين نتحدث بالمفرد عن عقل عربي نبطن القول وبشكل ضمني بوجود عقول أخرى. و إذا أخدنا العقل اليوناني و العقل الأوروبي باعتبارهما مارسا و بنيا داخل منظومتيهما المعرفية نسقا علميا معرفيا عبر ” التفكير النظري المعقلن”. توضحت لنا مشروعية هذه المقارنة،  بله جدتها.
يتميز العقل الإغريقي في الفلسفة اليونانية بتركيزه على ” اللوغوس ” كمبدأ انطولوجي لدى هرقليطس. به يفسر النظام السائد في الكون و ب” النوس” يخرج ” أنا كساجوراس ” فوضى الوجود أو – الكاوس- إلى الوجود المنظم و المعقول. بهذا يمكن الوقوف على الثوابت التالية في العقل اليوناني . إن العلاقة بين العقل و الطبيعة علاقة مباشرة ثم إن العقل قادر على تفسير الطبيعة، و الكشف عن أسرارها و مكوناتها… نفس الثوابت ورثتها العقلانية الأوروبية بدءا من ديكارت إلى حدود التصورات الأكسيومية للعقلانية الجديدة ورغم تعدد مفاهيم العقل بتعدد الفضاءات التي كان يفتحها و يكتشفها. فإنه استمر قادرا على الفهمو الاكتشاف و التكيف الذي يتحرك فيه … أما العقل العربي و انطلاقا من ” لسان العرب” مرورا بالشهرستاني و الجاحظ ، فيتميز و يرتبط بالسلوك و الأخلاق، إنه “عقل معياري” في بدئه يفيد الحجر و النهى و جمع الأمر والرأي. معيار يرتبط بالسلوك و الذات و سلوكها أكثر من ارتباطه بالموضوع الخارجي و تموضعاته” (24).
واذا نحن أردنا إن نجمل الأمر و نمحوره فيما يتعلق بهاته العقول – العرب اليونان و أروبا- قلنا أن هذا الأساس يقوم على ثلاثة أقطاب هي: ” الله – الطبيعة – الإنسان”. يشترك العقل اليوناني و الأوروبي في كون فكرة الله توظف من أجل تبرير مطابقة قوانين العقل لقوانين الطبيعة ، أي من أجل إضفاء المصداقية على المعرفة العقلية، و بالتالي فإن فكرة الله تقوم هنا بدور المعين للعقل البشري على اكتشاف نظام الطبيعة و اكتناه أسرارها. ” أما فيما يخص العقل العربي – فالمسألة مقلوبة رأسا على عقب – حيث تقوم الطبيعة بدور المعين للعقل البشري على اكتشاف الله و تبين حقيقته. هنا في الثقافة العربية الإسلامية يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها”(25).
نعم… تشكل هذه الأقطاب الثلاثة، النظام المعرفي/ الثقافي الذي يتحدد من خلاله عقل ما فهذه الأقطاب بما ترسمه من نظام ” بتموضعاتها و علاقاتها الجدلية” تمكننا من الوقوف على البنى- الميتافيزيقية و الأنطلوجية و الابيستيمولوجية- التي يأخدها قالب العقل على أرض الواقع . يقول ” كوسودرف” في هذا السياق:” يتحدد نظام كل ثقافة تبعا للتصور الذي تكونه لنفسها عن الله و الإنسان و العالم، وللعلاقة التي تقيمها بين هذه المستويات الثلاثة من نظام الواقع.”(26).
بهذا المعنى يخلص الجابري إلى اعتبار مفهوم العقل كما تبلور في الثقافتين اليونانية و الأروبية، يرتبط ارتباطا أصيلا ب’ إدراك الأسباب’ أي بالمعرفة، في حين يأخذ هذا المفهوم في حقل الفكر العربي صبغة ‘أخلاقية- سلوكية’، و التي من شأنها أن تجعل منه عقلا ذا مسحة معيارية.  عقلا يغرق حتى أخمص قدميه في ” النزعة المعيارية”.
بعد هذه الرحلة مع الأستاذ الجابري في أروقة مقولة العقل العربي. الرحلة التي عملنا فيها على إبراز الطبيعة التي تؤطر المفهوم. و كذا بيان الخصائص التي تشكله في مقابل العقل اليوناني والأوروبي… يبقى لنا بعد هذا أن نتعرف على ‘الإطار المرجعي’ الذي يتحدد داخله الفكر العربي… فما هو هذا الإطار؟؟؟
إن مسألة تحديد الإطار المرجعي للفكر العربي هي أولا أخيرا حسب الجابري مسألة اختيار. إن الباحث ليجد نفسه أمام لا بداية واحدة تمثل الإطار الذي يشكل هذا الفكر، و إنما أمام بدايات متعددة، و بالتالي تطرح أمامه – الباحث – مشكلة النقطة التي سينطلق منها لدراسة تشكل بنية العقل العربي. وانه سواء اخترنا الرجوع بهذه النقطة إلى السومريين أو إلى العصر الجاهلي، أو عند ظهور الإسلام. أو ربطناها بفترة تاريخية سابقة أو لاحقة، فسنكون في كل الحالات قد مارسنا نوعا من الاختيار. بهذا المعنى تصبح مسألة البداية- و الكلام هنا للجابري- ليس ما كان بالفعل أي النقطة الحقيقية التي تمثل البداية، بل هي ما اخترناه أن يكون أي ما نعمل على اختياره كنقطة انطلاق. ومنه تغدو مسألة الاختيار أيا كان منطلقها مسألة مشروعة” فقط شريطة أن يكون ذلك متسقا غير متناقض مع المعنى الذي يعطيه الباحث لعبارة العقل العربي، فالبداية ستتخذ مشروعيتها من الحدود التي نرسمها للموضوع و ليس العكس”.(27)
يأتي الاختيار الذي يتبناه الجابري من خلفية تقوم على النظر إلى العقل العربي ، لا من خلال ما هو حي / ميت .أي ما هو باق من النقوش و الآثار و الأصول اللغوية التي تمتد بعيدا… بل لقد فضل تحديد العقل العربي من خلال ما هو حي فيه أي من خلال الثقافة التي صنعته. الثقافة العربية التي مازالت تحتفظ بها إلى اليوم كتب و مجلدات عديدة لا تحصى، و التي مازالت تحمل هويتنا الثقافية العربية… و مادام الأمر كذلك فان مجال الاختيار للبداية الملائمة للتحديد الذي أعطيناه للعقل العربي أصبح محصورا بحدود هذه الثقافة التي فينا.
أي الإطار المرجعي الذي يتحدد به. فما هو هذا الإطار الذي يختاره الجابري كنقطة بدء ؟
لا حاجة بنا إلى الخوض فيما يسوقه الجابري في معرض حديثه عن الإطار المرجعي، من حيث انه يتحدد حسب العديد من الأقلام ب”العصر الجاهلي” باعتباره المشكل لبنية العقل العربي. كما أننا لا نرى بدا في استعادة الفحص الذي يقدمه لصورة هذا العصر ( فذاك ما يمكن الرجوع إليه بتفصيل في الفصل الثالث من كتاب تكوين العقل العربي)،تكفينا الإشارة إلى أن بنية العقل العربي قد تشكلت – حسبما يعتقد الجابري- في ترابط وثيق مع العصر الجاهلي فعلا ” و لكن لا العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد هذه البعثة.العصر الجاهلي بوصفه زمنا تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في “عصر التدوين”، الذي يفرض نفسه كإطار مرجعي لما قبله وما بعده.”(28)
عصر التدوين كما يرى الجابري لم يكن يشكل ما يمكن التعبير عنه ب” ميلاد” العقل العربي، فالعقل العربي كان موجودا منذ أن و جد العرب. ليس هناك شعب بدون نمط معين من التفكير، بدون لغة أو مفاهيم يتعامل بواسطتها مع العالم. و لكن، ثمة فرق بين التطور الذي يحدث في الفرد أو في شعب من الشعوب بصورة لا واعية. و بين التطور الذي ينطلق منذ ” لحظة الوعي بالتطور” هذا جانب، و هناك جانب آخر. وهو أن ما قبل عصر التدوين كان غير مدون ( نقل شفوي). و التدوين معناه الانتقال من الخطاب الشفوي الحر…إلى خطاب مدون، مبوب، مقـنن. خاضع لأنواع من الرقابة. فالعقل العربي الذي توارثته الأجيال اللاحقة هو ذلك الذي قـنن في عصر التدوين، و بالتالي فان ما تم في عصر التدوين هو عبارة عن إعادة بناء شاملة للفكر العربي. و إعادة البناء عملية تتطلب أدوات و مناهج فكرية قد تكون موجودة من قبل بصورة أو بأخرى. و لكن توظيفها في نصوص مكتوبة يعني في الوقت ذاته تدوينها هي نفسها…”(29).
وحتى نضع إصبعنا بشكل أوضح على عصر التدوين كما يتحدد عند صاحبنا. سنتابع بعضا من الخطوط العريضة التي تتحدد معالمها في نص” تكوين العقل العربي”…
ينطلق الجابري في مقاربته هذه من نص ” للذهبي” يقتبسه من كتاب ” تاريخ الخلفاء للسيوطي” و يعتبره نصا ذا أهمية بالغة بالنسبة لموضوعنا هذا.
يستنبط الجابري من نص الذهبي( ما يقوله النص و ما يسكت عنه)، مجموعة من المعطيات التي تؤكد أن الإطار التاريخي الذي يتحدد خلاله عصر التدوين، إنما يبدأ من” سنة 143 هـ، باعتبارها بداية التدوين، إذا ما فهمنا من التدوين تلك العملية الواسعة التي تمت بإشراف الدولة ابتداءا من عهد ” المنصور العباسي” الذي تولى الخلافة ما بين 136هـ إلى 158 هـ. ” (30). كما أننا نجد نص الذهبي يشير بالإسم إلى الأمصار و الأماكن التي انطلقت منها عملية التدوين وهي:( مكة ، المدينة ، الشام ، البصرة ،  الكوفة و اليمن ).
و هي أمصار كانت تجمع في حضنها الرجال الحاملين للموروث الإسلامي أي ذلك الخليط من(النصوص و المعلومات و التأويلات و الشروح الغير المبوبة و لا مصنفة و لا مصفاة) إذ أن عملية التدوين كانت تعني في ما يخص هذا الموروث عملية غربلة ومصفاة و تبويب وتصنيف. ولقد أسفرت هذه العملية عن تصنيفات عدة من “حديث و تفسير و فقه و لغة و تاريخ”.
يقف الجابري عند عبارة جاءت في نص الذهبي” تدوين العلم و تبويبه ” و التي تفيد ضمنيا أن تدوين العلم غير إنتاجه، بمعنى أن العلم جاهز و مهمة المدون هي الجمع و التبويب لاغير. و إذا كان و قوف الجابري عند هذه العبارة( التي تفيد أن التدوين غير الإنتاج و هو قول واضح بذاته كقول ” هذا من باب السماء فوقنا”.)  فان السياق و التحليل التاريخي يفرض علينا أن نستحضر أن ” مفهوم العلم ” ينحصر أو كان يتمثل في” الحديث” و ما يتصل به  من تفسير و فقه ، وما يتفرع عنه من علوم مساعدة ” كعلم اللغة و المغازي و أيام الناس” و لا ينسحب ” مفهوم العلم ” بهذا المعنى على باقي العلوم الأخرى التي يحويها اليوم” مفهوم العلم الحديث ” .
إن عملية التدوين لا يمكن أن تتم بدون انتقاء و حذف و تقديم و تأخير وتصحيح و تصنيف… الخ، وبعبارة موجزة دون تقديم “رأي”، فهي ليست عملية بريئة محايدة بل عملية تتأثر بالذات بمثل ما تأثر هي في هذه الذات. إن عملية التدوين كانت في حقيقتها ” إعادة بناء ذلك الموروث الثقافي بالشكل الذي يجعل منه تراثا أو إطارا مرجعيا لنظرة الإنسان العربي إلى الأشياء، إلى الكون و الإنسان و المجتمع و التاريخ”.(31)
يندرج ما سبق في مقول ” نص الذهبي ” أي ما يقوله النص بصراحة ووضوح .
و الجابري اذ يسقط نظرته التفكيكية على النص- وهو متأثر أو مستحضر لأعمال كل من
ميشيل فوكو و جاك دريدا و التوسير و غيرهم”- يكشف عن الجانب الخفي الذي يسكت
عنه الذهبي و يتمثل بشكل أساس في نقطتين:
أولهما: سكوته عن عملية العلم و تبويبه كما قامت عند الشيعة على عهد جعفر الصادق
توفي سنة 148هـ- وهو السكوت الذي يعكس في جانبه الايديولوجي ذلك التسابق السني / الشيعي. حول الأسبقية في التدوين. فلا ريب أن عملية التدوين عند السنة هي عملية اضطلعت بها الدولة، و لم تكن عملية عفوية أو نتيجة مصادفة، فالدولة كانت وراء هذه الحركة العلمية الواسعة، و التي كانت تستهدف في العمق” ترسيم الدين” أي جعله جزء من الدولة و في خدمتها . و بعبارة معاصرة نقول ” تسييس الدين و أدلجته” أو تدويله
والقول لنا هنا-… وفي المقابل نجد نفس التعاطي عند” الشيعة” التي عملت على ترسيم المعارضة السياسية فخرجت بهذا المستوى من مستوى مواجهة الدولة “عسكريا” إلى مستوى مواجهتها” ثقافيا”. فمع جعفر الصادق أضحت تتجه من العمل السياسي المباشر ضد الدولة إلى العمل الثقافي الديني.
إن فهمنا هذا التنافس الايديولوجي هاتين الفرقتين في الإسلام -وبتعبير الجابري – بين هذين العقلين العقل السني و العقل الشيعي.أمكننا فهم أن عملية التدوين كبناء ثقافي شامل كان الهدف منه هو إعادة بناء الموروث العربي الإسلامي بالشكل الذي يجعل من الماضي
خادما للحاضر – حاضر السنة و الشيعة –  و بالتالي مستقبل كل منهما. لقد انطوت هذه العملية في بعدها الأخطر و الأبعد أثرا، على تشكيل العقل العربي، العقل الذي ينتمي إلى هذا الموروث نفسه.
وتتعلق النقطة الثانية: التي تطفو على سطح نص الذهبي بعد حفر و تفكيك، و تدخل في نطاق ” المسكوت عنه”. و هي المتعلقة بتدوين “علم الكلام “من جهة و “علوم الأوائل” من جهة أخرى. وهي العملية التي يجمع المؤرخون على أنها بدأت مع ” خالد بن اليزيد” – متوفى سنة 85هـ – والذي استدعى جماعة من اليونانيين الذين كانوا في الإسكندرية، و ذلك بغية نقل بعض من الكتب اليونانية و السريانية من طب و كيمياء و فلسفة… إلى اللغة العربية. ومن ناحية ثانية قامت على عهد “عبد الملك ابن مروان” – متوفى سنة 86هـ – عملية تعريب الدواوين/ الإدارة. في نفس الفترة التي بدأ فيها الأمير الأموي”خالد بن اليزيد” الاشتغال بالترجمة (وهي العملية التي كان من شأنها جمع اللغة و تقعيدها و تعميمها).
إن عصر التدوين هذا سيبلغ أوجه مع ” بيت الحكمة” التي أنشاها و رعاها الخلفاء العباسيون في بغداد. و بالتالي فهو يستحق أن يوصف بأنه “عصر التدوين الثقافي العام “.
و محصول القول أن هذا العصر هو عند الجابري ” الإطار المرجعي الحق للعقل العربي”وليس العصر الجاهلي و لا العصر الإسلامي الأول، و لا ما قبلهما. دليل ذلك أنم ما نعرفه عن ما قبل عصر التدوين إنما تم بناءه في هذا العصر نفسه، كما أن ما جاء بعده لا يفهم إلا بربطه به نوعا من الربط. وبعبارة أخرى أن عصر التدوين حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له، و في كل ماض آخر منظور اليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية كماض و حاضر في مختلف أنواع الغد الذي أعقبته. هو حاضر في كل ذلك بكل معطياته
وصراعاته و تناقضاته الاديولوجية وأيضا بكل مفاهيمه ورؤاه و أدواته المعرفية”. يضيف الجابري قائلا:” إن المعطيات والصراعات والتناقضات التي عرفها عصر التدوين و التي تشكل هويته التاريخية، هي المسؤولة عن تعدد الحقول الايديولوجية و النظم المعرفية في الثقافة العربية كما أنها هي المسؤولة عن تعدد المقولات وصراعها في العقل العربي.”(32)
قد نزعم أننا قد وصلنا عند هذا المستوى من القول، الى رؤية واضحة للمفهوم الذي عملنا من خلال السطور الماضية على محاولة الإمساك بتلابيبه… ” مفهوم العقل العربي
فلنجمل الآن في عجالة خلاصة ما توصلنا إليه.
إن مفهوم العقل العربي كما صاغه الجابري ليس مقولة ميتافيزقية فارغة و لا شعارا
ايديولوجيا، و إنما المقصود به بعبارة لالاند “جملة المفاهيم و القواعد و المبادئ التي تحكم رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء، وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة.”
والثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي هي – حسب الجابري- زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية. والثقافة العربية وبالتالي العقل العربي ذاته، تشكلت ككيان ثبتت أركانه وتعينت حدوده و اتجاهاته. خلال الفترة المعروفة في تاريخ هذه الثقافة ” بعصر التدوين”(33). وفي عبارة واحدة نقول ” العقل العربي هو البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكلت في عصر التدوين”(34).
نأتي الآن في ختام هذا المقال و بعد أن بينا دلالة مفهوم “العقل العربي
إلى محاولة للتعقيب على سؤال اعترض سبيلنا في مستهل هذا القول . و هو السؤال الذي يطرحه ” العفيف الأخضر ” طاعنا في مشروعية المفهوم عند الجابري .
كنا قد أرجئنا التعقيب و الرد إلى حين توضح الرؤية وتبدد اللبس. أما الآن وقد عرفنا محمول القصد وطبيعة المفهوم كما يتحدد عند صاحبه. صار بإمكاننا أن نقول:
أولا: فيما يتعلق بالتمييز الذي لا يعييه الجابري حسب الأخضر بين العقل الكوني و العقلية الخاصة. يجد ما يفنده على طول الفصول الثلاثة من كتاب ” تكوين العقل العربي” فالجابري يضع نصب عينيه هذا التمييز، فضلا عن أنه بعد اقتباسه لمفهوم ” اللاشعور المعرفي عند بياجي” يعمل على أجرأته بالشكل الذي يمنعه السقوط في ذات التمييز. نجده يعبر عن ذلك بقوله “… مفهوم اللاشعور المعرفي مفهوم إجرائي يجنبنا السقوط في التصورات اللاعلمية التي تقود إليها بعض المفاهيم  الجامدة مثل مفهوم”العقلية” الذي يقوم على القول صراحة أو ضمنا بوجود ذهنية مزاجية فوق الزمان و التاريخ. خاصة بكل شعب أو عرق. أن هذا المفهوم مفهوم إجرائي خصب، لأنه يساعدنا على إرجاع عملية المعرفة إلى جهاز من المفاهيم و الآليات الغير مشعور بها فعلا، و لكن القابلة للرصد و المراقبة
و التحليل، بدل إرجاعها إلى” ذهنيات” أو إلى “عقليات”أو غيرها من المفاهيم القاحلة المضللة”.
ثانيا: إن القول بأن الجابري يفقأ عين مبدأ عدم التناقض بقوله: ” العقل اللاعقلاني أو اللامعقول العقلي” هو قول وإن بدى في ظاهره راجع إلى التباس ومزج بين المتناقضات وهو المأخذ الذي ينتقده الأخضر- فإنه في حقيقته و جوهره مكمن عقلانية أصيلة مادامت  المفاهيم التي يستعملها الجابري، لا تعدو أن تكون مفاهيم إجرائية تتبدى معقوليتها في الإمكانات التي تفتحها لسبر غور النص و تجديده وفهمه.
والإجرائية تعني:” أنك تعرف شيئا تعريفا معينا من أجل الوصول بواسطته إلى نتائج معينة تعبر عن الحقيقة الموضوعية أو المنطقية أو التاريخية”(35).
إننا نجد الجابري يستلهم أولياته المفهومية و مفاهيمه المنهجية الإجرائية من متون التراث بمثل ما يقتبسها من صنوف معرفية شتى. يقتبس روح المفهوم و يطوع مضمونه و يمنحه أفقا خصبا، بالشكل الذي يساعده على تشريح النص و الوصول به إلى موطن الكشف. أن تلك الهالة من النقد التي يحيط بها الأخضر فكر الجابري، لتتبدد حين تفحصها بعين ومنظار هذا الفكر ذاته.
أن حديثنا في هذا الفصل عن ” العقل العربي” كما يتبلور عند الأستاذ محمد عابد الجابري و من وراءه الثقافة العربية المكونة له والمساهم هو في إنتاجها. و الذي ألمحنا إلى أنه تبلور و تأسس في “عصر التدوين”، كان لا من أجل البحث لهذا العقل عن أصل يعود إليه و زمن ينطلق منه وفقط… و إنما من أجل نحت ” عصر تدوين جديد”(36) لنا، بمقاييس جديدة و انبناءً على شروط و معطيات  حديثة و راهنية.
إن مسألة تأسيس” عصر تدوين جديد”، يجب أن تنطلق من نقد التراث” نقد العقل العربي” ومن نقد “العقل الغربي”… فمن خلال هذا النقد يتحصل للعقل مراجعة نفسه ليتحرر من عوائقه و مكبلاته بانيا عصر تدوينيا جديدا

طبيعة هذا النقد و كيف يتبلور عند الأستاذ الجابري… هو ما سنحاول الوقوف عليه من خلال مقال قادم .
******
لائحة المراجع :
(1) – محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي – المركز الثقافي العربي – دار النشر المغربية – البيضاء 2000 – صفحة5 
(2) – علي حرب – نقد النص – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء 2000   – الطبعة الثالثة – صفحة 117
(3) – م.ع. الجابري الخطاب العربي المعاصر دراسة تحليلية نقدية – المركز الثقافي العربي – دار الطليعة – الطبعة الأولى 1982
(4 )- الخطاب العربي المعاصر – المرجع السابق – ص6
(5 )- المرجع السابق – ص 187
 (6 )- المرجع السابق – ص 191
( 7 )- تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص11
( 8 )- العفيف الأخضر –  الجابري يكتب عن العقل و لا يكتب به  – جريدة الأحداث المغربية – عدد بتاريخ 24 شتنبر 2003
(9 )- الجابري يكتب عن العقل و لا يكتب به – المرجع السابق-
(10)- تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 11
(11) – المرجع السابق – ص 11
(12)- المرجع السابق – ص 12
 (13)- المرجع السابق – ص 12
(14)- المرجع السابق – ص 12
(15)- المرجع السابق ص 13 / 14
(16)- إدريس كثير – الإسرار الفلسفي – منشورات إتحاد كتاب المغرب – الرباط 2003  ص 10
(17)- تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 15
 (18)- المرجع السابق – ص 15
(19)- المرجع السابق – ص 15
(20)- المرجع السابق – ص 16
(21)- الإسرار الفلسفي – المرجع السابق – ص 10
(22)- طه عبد الرحمان- تجديد المنهج في تقويم التراث- المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء/ بيروت ط الثانية 2005
         ص 30  /31
(23)-  تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 17
 (24)- الإسرار الفلسفي- المرجع السابق – ص 10 / 11
(25) – تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 30
(26) – المرجع السابق-  ص 18
 (27) – المرجع السابق – ص 52
(28) – تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 52
(29)- محمد عابد الجابري – مواقف عدد 20- دار النشر المغربية اكتوبر 2003- ص 86
(30)-  تكوين العقل العربي – المرجع السابق –  ص 58
(31) – المرجع السابق –  ص 61
(32) – تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص 68
(33) – المرجع السابق – ص 68
(34) – تكوين العقل العربي – المرجع السابق – ص68
 (35) – مواقف العدد 34 – المرجع السابق – ص 59 / 60
(36) – نجد الفصل الأخير من بنية العقل العربي بعنوان ” من أجل عصر تدوين جديد
الجابري – بنية العقل العربي – المركز الثقافي العربي – ط الثالثة 1993 بيروت ص 555 و مابعدها
الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *