اللد: القصة غير المروية لاستعادة المدينة
خلال هبة أيّار الفائتة، نُشرت العديد من التحليلات التي سلّطت الضوء على السياسات الاستعمارية في مدينة اللد وتأثيرها على مناحي الحياة لسكان المدينة الفلسطينيين، في محاولة لفهم لماذا تميّزت اللد، وقد خلصت هذه التحليلات إلى أن تفرّد هذه السياسات من حيث كثافتها وشراستها هو ما يقف وراء ردة الفعل الغاضبة. لكن هناك سؤالًا لم يطرح في النقاش، وهو سؤال ما الذي يدفع بالسلطة أصلًا إلى استهداف اللد بشكل خاص، وإلى تفعيل الحركة الاستيطانية المتطرفة «النواة التوراتية» فيها على نحو لا تعرفه باقي المدن الفلسطينية المحتلة، خاصة وأن اللد ليست مركزًا توراتيًا قديمًا ولم يكتشف فيها مؤخرًا حقلٌ نفطي ولا هي مركز جذب اقتصادي أو أيديولوجي، إذن لا بد أن هناك أمرًا متميزًا آخر يحدث في اللد يجعلها عرضة لهذه الهجمة الاستيطانية.
تتطلب الإجابة على هذه التساؤلات بحثًا أكثر عمقًا وقربًا للحياة اليومية لسكان المدينة، وللتحولات التي طرأت على المكان والزمان الاستعماري فيها، ولتجليات وأشكال الصراع عليهما بين السلطة المحتلّة المهيمنة وسكانها الفلسطينيين. أقول صراعًا لأن ما يجري في اللد هو صراع بين طرفين وليس كما يمكن أن يفهم من بعض التحليلات أننا أمام آلة استعمارية نجحت دائمًا وبشكل مطلق بالفتك بأهل المدينة الفلسطينيين منذ احتلالها.
قبل سنوات، عملتُ في اللد باحثًا أحاول فهم شكل عمل الرجال والرجولة الفلسطينية فيها،[1] وبالتالي أشعر أن عليّ مسؤولية سرد قصة أخرى للمدينة يجهلها الكثيرون ممّن يعيشون خارجها. هي قصة استعادة فلسطينية فريدة لزمان المدينة التي احتلت عام 1948 ومكانها، بدأت في ثمانينيات القرن الماضي. هذه الاستعادة هي، باعتقادي، السبب المركزي الذي دفع بالسلطة في السنوات الأخيرة إلى تكثيف سياساتها الاستعمارية بشكل خاص في هذه المدينة في محاولة لاستعادة السيطرة عليها من جديد. من هنا يمكن فهم حدّة المواجهات بين السلطات الإسرائيلية وبين فلسطينيي المدينة في هبة أيّار على أنها استمرار لصراع طويل بين طرفين لم يُحسم بعد، وعلى أنها ظهور جلي لمواجهة ربما قد عمد الطرفان طويلًا لعدم الجهر به لأن ذلك كان سيشكل تهديدًا على مشروعيهما؛ الإنجاز الفلسطيني في استعادة الحيز من جهة، ومساعي السلطة الاستعمارية الجارية للسيطرة عليه مجددًا من جهة أخرى.
لقد اتخذ فلسطينيو المدينة قلب مدينتهم الفلسطينية المُستعاد، والمُهدّد من جديد، مسرحًا لاحتجاجهم. وقد قوبلت هذه السيطرة الفلسطينية على قلب المدينة وهذا الاحتجاج بشراسة احتلالية، لأن السلطة رأت فيه تهديدًا جديًا لسيطرتها، ورأت بالاحتجاج، إن لم يُقمع، اعترافًا وقبولًا بالإنجاز الفلسطيني، وهو ما لا يمكن أن تقبل به أي سلطة استعمارية.
تاريخ موجز للصراع على قلب اللد
بعد احتلال اللد وتهجير الغالبية الساحقة من أهلها وعلى مدار سنين طويلة قامت السلطات الإسرائيلية بهدم ممنهجٍ لما تبقى من المباني التي شكلت المدينة الفلسطينية حتى عام 1948. فالمدينة القديمة المكتظة والتي كانت المدينةَ كلها حتى عام 1917 مُحيت بالكامل خلال العقد الأول للاحتلال، ولم يسلم منها غير المسجد العمري الكبير وكنيسة الخضر وبعض المباني الآيلة للسقوط التي امتنعت السلطات عن هدمها بعد أن صنفتها مبانيَ أثرية مثل المصبنة والمعصرة وخان الحلو. وبعد أن أكملت تسويتها بالأرض أنشأت في الستينيات على الجزء الشرقي من المدينة حيًا سكنيًا حديثًا لصالح المستوطنين اليهود أطلق عليه حي «رمات أشكول»، بينما أبقت على الجزء الغربي من المدينة منطقةً مفتوحةً كبيرةً تُستعمل موقعًا للسوق الأسبوعي المتنقل ومحطة حافلات. أمّا ما بقي من مدينة ما قبل النكبة فهو عشرات المتاجر وبعض بيوت سكنية، لكن حتى هذا الحي جاءت آلة الهدم على معظمه، ويقتصر اليوم على ثلاثة شوارع مركزية تجارية وميدان أمام جامع دهمش. يُطلق على هذه المنطقة بلسان البعض حتى اليوم «اللد الانتدابية»، أمّا من يأتي إليها من الأحياء العربية الأربعة التي تطوّرت وتوسّعت حولها فهي «اللد»، فيما الاسم الأكثر تداولًا هو «البلد القديمة» نظرًا لأنها أقدم ما بقي.
في هذه المنطقة اتخذتُ بين الأعوام 2015 و2017 من أحد مقاهي الأرجيلة الفلسطينية حقلًا إثنوغرافيًا لدراستي عن حياة الرجال الفلسطينيين في المدينة.
من خلال معايشتي لرجال اللد في المقهى وتعلّمي تاريخ نشأته وحياته اليومية في هذه المنطقة تحديدًا، أدركتُ أن هذا المقهى جزء من مشهد ثقافي وتجاري مدينيّ فلسطيني جديد نما خلال العقديْن الأخيريْن في البلدة القديمة التي كانت منذ احتلال المدينة ولعقود بأيدٍ يهودية، وباتت اليوم وبفعل هذا المشهد تُعرف منطقةً عربية.
يمكن فهم حدّة المواجهات بين السلطات الإسرائيلية وبين فلسطينيي مدينة اللد في هبة أيّار على أنها استمرار لصراع طويل بين طرفين لم يُحسم بعد
هذه الاستعادة الفلسطينية أُضيفت إلى استعادة أخرى لحي «رمات أشكول» الذي تحول خلال التسعينيات هو الآخر لمنطقة عربية نتيجة دخول العائلات الفلسطينية إلى الشقق السكنية التي خلت تدريجيًا من عائلات المستوطنين بعد انتقالهم إلى أحياء أفضل جنوب المدينة. بهذا تمت بشكل من الأشكال استعادة الحيز الذي كانت عليه المدينة قبل احتلالها، وصارت غالبية سكان المدينة وتجارها والناشطين فيها، ليلًا ونهارًا، من الفلسطينيين. كل هذا يُضاف ويشكّل امتدادًا جغرافيًا للأحياء العربية المحيطة من الشمال والغرب، «الواحة الخضراء» الذي بُني كحي عربي في السبعينيات انتقلت إليه عائلات حي المحطة. و«سامخ حيط» و«المحطة» و«شنير» والتي كان معظم سكانها من العائلات التي قدمت من منطقة بئر السبع ابتداء من الستينيّات. يسكن هذه الأحياء فلسطينيون في بيوتٍ أرضيةٍ يملكونها، وتظهر كأي قرية عربية أخرى من ناحية وضوح حدودها ومعالمها، وتشبه في ذلك أحياء الجواريش والرباط في مدينة الرملة المجاورة. لكن ما يميز هذا التطور في اللد هو أن كل هذه الأحياء التي تطورت اعتمادًا أيضًا على البناء غير المرخص من قبل السلطات ورغمًا عنها، باتت تشكل مع البلدة القديمة وحي «رمات اشكول» المُستعاديْن منطقة واسعة معظمها الساحق فلسطيني، كما لو أنها بلدة فلسطينية كبيرة تقع إلى الشمال من البلدة اليهودية التي توسعت إلى الجنوب.
هذا التطور والذي فصلَ إلى حد كبير بين فلسطينيي المدينة ومستوطنيها، ضرب عرض الحائط بالمصطلح الاستعماري «المدينة المختلطة». وقوبل بمحاولات السلطة تقويضه من جهة الشمال بواسطة مشاريع استيطانية كبيرة أبرزها: المنطقة الصناعية والبنكية التي أقيمت إلى الشمال من حي الواحة الخضراء؛ والحي السكني «جاني أفيف» الذي بُني لصالح المستوطنين الروس في التسعينيات إلى الشمال من حييْ المحطة وشنير.
أمّا الأحياء العربية المستعادة فكان للاحتلال مخطط آخر لتقويضها، إذ ولأن هذه الأحياء كانت «أحياء يهودية» قبل أن تتم استعادتها، وجزءٌ من أراضيها مملوكة للسلطات الاستعمارية، خصصت السلطة من أجل محاولة استعادة السيطرة عليها من جديد مشروعًا استيطانيًا من نوعٍ آخرَ يعتمد على تغلغل المستوطنين التابعين للنواة التوراتية.
لكن قبل التطرّق لهذه المحاولات يجب أن نسرد أولًا قصة عودة الفلسطينيين إلى قلب مدينتهم.
قصة العودة
المشهد الثقافي الفلسطيني الذي تطوّرَ فيما تبقى من البلدة القديمة هو جزء من مشروع استعادة أكبر لمكان المدينة وزمانها. لكن ما يميزه هو أنه ذو دلالات سياسية واقتصادية ورمزية كبيرة لكلا الطرفين؛ الفلسطيني الذي لا يريده أن يتراجع، والمستعمِر الذي يسعى إلى تحويله لمشهد إسرائيلي. وعلى العكس من محاولات السلطات الظاهرة للعيان هذه، قام فلسطينيو المدينة بتطوير مشهدهم الثقافي الجديد هذا بهدوء. إنها قصة استعادة فريدة تُجسّدها وتعكسها قصة المقهى الذي كان لي حقلًا إثنوغرافيًا.
كان المحلّ الذي سيصير القهوة مكانًا مهجورًا، صادرًا بحقه أمر هدم، لكن البلدية لم تكن تملك نقودًا كافية لهدمه، «قلتلهم إنه أنا بدي المحل وأنا بدي أرمّمه. بالماضي كان سوق البلدية وهي أهملته، وكل شي كان مكسور وملان زبالة جوا. أطلعت منه زبالة تقريبًا ست شاحنات».
هكذا يقص محسن الصح حكاية تأسيس مقهاه عام 2004 من بين الركام في قلب المدينة المنكوب. في هذا الموقع نما ونشط المقهى الحميمي وجمهوره لعشر سنوات. بدايةً كان هذا المقهى ثالثًا لاثنين حديثي العهد مجاورين، ولاحقًا نما مشهد مقاهي الأرجيلة حتى وصل عددها خلال العقد الأخير ثمانية، نشطت كلها دون استثناء في مساحة قلب المدينة القديمة الضيقة. إنه مشهد ثقافي متفرّد لا تعرفه مدن أخرى من مدن الساحل الفلسطيني من حيث تجمّعه المُكثّف هذا، وحجمه، وحيويته، واقتصاره على الرجال الفلسطينيين. لقد نشط هذا المشهد على وجه الخصوص في ساعات الليل بعيدًا عن العائلات والبيوت السكنية، وتوارى عن أنظار الدولة في مبانٍ وساحات مغلقة. هذا ما وفّره قلب المدينة لهذا المشهد الفلسطيني من أجل ضمان تطوره في مدينة استعمارية ومجتمع محافظ. لقد شكّل قلب المدينة أيضًا مصدرَ جذب بسبب الرمزية والذاكرة التي يحملها، والتي يحتاجها هذا المشهد كما كل مشهد ثقافي آخر. وفي المحصّلة، ومع ساعات المساء كل يوم، بعد انتهاء النشاط التجاري النهاري، كان نشاط الرجال الفلسطينيين يبدأ داخل فضاءات مغلقة تشكل مشهدًا بمثابة مدينة أخرى ليليّة داخل مدينة، لا تخفى تمامًا عن أنظار السلطة المتمثّلة بالأبراج السكنية الاستيطانية المحاذية، لكنها تنجح في التواري عنها بشكل كبير.
خلال العقد الأخير من القرن العشرين، ومع تطور مراكز تجارية عصرية أخرى في المناطق اليهودية في اللد، فقدت المنطقة القديمة حيويتها بحيث قام التجار اليهود، المتقدمون في السن بمعظمهم، بإغلاق متاجرهم التي لم تعد تجني أرباحًا. هذا التحول رافقه إهمال كبيرٌ من قبل السلطات للبنى التحتية، فتحوّلت المنطقة إلى فراغ وحطام.[2] لكن هذا الوضع لم يدم طويلًا وسرعان ما التفت أهل المدينة إلى مدينتهم وإلى فرصتهم في إحيائها، فبدأوا بملء هذا الفراغ.
عام 1996 نجح أهل اللد في افتتاح مسجد دهمش بعد أن كان مغلقًا منذ احتلت الحركات الصهيونية المدينة وارتكبت فيه أبشع مجازرها. استعادة المسجد كانت مؤشرًا ونقطة انطلاق لعملية الاستعادة الأكبر. فمثلما رُمّم المسجدُ بعد أن أزيلت آثار الدماء والرصاص عن جدرانه، شرعَ أهل البلدة في العودة إلى المنطقة المحيطة به مستغلين تراجع السلطة فيها. لكن هذه المرة عادوا كأصحاب مصالح لا كمستهلكين فقط، فقاموا بشراء متاجر من شركات حكومية واستئجار دكاكين على وشك الإغلاق وترميم ساحات ومبانٍ مهملة ومهدّمة جزئيًا ليقيموا فيها متاجرهم، تمامًا كما فعل محسن الصح وآخرون في مقاهيهم. هكذا وبعد أن كان فيها بضعة محالٍ تجارية بأيد فلسطينية أصبح قلب البلدة يعجّ نهارًا بالتجار والمستهلكين الفلسطينيين، وليلًا بروّاد المقاهي وبعض المطاعم التي تبقى مفتوحة لساعات متأخرة.
بالرغم من أن هذا المشهد الفلسطيني ينشط في منطقة تحت سيطرة الدولة بل ويعود جزء من مبانيها وأراضيها إلى شركات حكومية، غدا قلب المدينة يُعرف ويسمى حتى بلسان المستوطنين «منطقة عربية». عاد قلب المدينة ليكون فلسطينيًا بفعل عودة الفلسطينيين وتموضعهم فيه من جديد. تموضعٌ فعلي ومرئي وليس امتلاكًا رمزيًا فقط. كجزء من شعب سلبت السلطات الصهيونية منه بنية المكان والزمان الذي كان من الممكن أن يعزز إنتاجه المادي والاجتماعي، قام فلسطينيو اللد بالرغم من قيود الواقع الاستعماري باسترداد ملكية هذه البنية بواسطة العودة والتموضع في مكان وزمان قلب المدينة الذي كان قبل احتلال المدينة جزءًا من هذه البنية وركيزة اقتصادية واجتماعية.
مما لا شك فيه أن هذا النمو لمركز تجاري ليس حصرًا على اللد، بل يمكن القول إنه يمثّل ظاهرةً أخذت بالانتشار في المدن والبلدات الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين على أثر تحولات اقتصادية محلية وعالمية. وليست هذه الاستعادة الفلسطينية الوحيدة للحيز في الأراضي المحتلة عام 1948 والمشروع الفلسطيني في حيفا هو خير دليل على ذلك، والذي كما المشروع اللداوي اعتمد أيضًا على هجرة الفلسطينيين إلى المدينة لتعزيز الوجود والتطور فيها. لكن المشروع اللداوي الذي تم إنجازه دون أن تلتفت إليه الأبصار هو مشروع متميز باسترداده الفعلي للمنطقة التي سُلبت عام 1948.
استعادة الفلسطينيين لمسجد دهمش كانت نقطة انطلاق لعملية الاستعادة الأكبر، فمثلما رُمّم المسجدُ بعد أن أزيلت آثار الدماء والرصاص عن جدرانه، شرعَ أهل البلدة في العودة إلى المنطقة المحيطة به مستغلين تراجع السلطة فيها
هذه العودة الناشطة إلى منطقة رمزية تجسد تاريخًا جمعيًا فلسطينيًا عززت التضامن الجمعي والشعور بالانتماء للمكان الذي صار بنفسه عنصرًا وسيطًا وفاعلًا في عملية التنشئة الاجتماعية الحيّزية هذه. لا شك أن هذا فعل مقاومٌ يتحدّى سياسات السلطة التي تهدف إلى قمع أي ظهور جمعي فلسطيني في المدن المحتلة عام 1948. وهو فعلٌ يحمل معاني قومية فلسطينية ترمز إلى العودة المشتهاة والتجمع بعد الشتات. من الصعب عدم رؤية هذه المركَزة الفلسطينية لهذا المكان والزمان الذي كان جزءًا من نسيجٍ مدينيٍ فلسطيني كعودة فعلية وإن كانت محدودة ومحلية. نتيجة لذلك لم يعد بالإمكان رؤية قلب المدينة أثرًا يكون فيه الفلسطيني شبحًا كما هو الحال في المُدن التي طُهرت بالكامل من الوجود الفلسطيني. الوجود الفلسطيني اليوم في قلب المدينة حقيقة وليس هيتروتوبيا يذكرنا فقط بفلسطين واللاجئين. وجود شاهد على فلسطين التي ما زالت حية. عودة لا تهدف إلى توثيق وتخليد المنطقة كموقع من «مواقع الذاكرة» الفلسطينية كما تفعل على سبيل المثال مسيرات العودة الرمزية والتي يمكن القول عنها استنادًا على بيير نورا بأنها «استحضار إشكالي وغير كامل لشيء لم يعد قائمًا». إنها تجربة مُعاشة كاملة لعودة فلسطينيين لمكان وزمان غابوا عنه زمنًا طويلًا، حتى لو كان هذا الحضور المستمرّ محدودًا وخاضعًا لرقابة السلطة. حضورٌ يجسّد الماضي والحاضر الفلسطيني في الفضاء الاستعماري، ويبث في داخله رموزًا وتمثلات ثقافية واضحة تشير إليه وتحدده كفلسطيني.
لقد جرت إعادة تصميم الفضاء بأيدٍ فلسطينية خلال العقدين الأخيرين على نحو معاكس لِما قامت به السلطات قبل ذلك، فهذه التحولات على مستوى المادة والوعي لم يتم التخطيط لها ولم ترتبط بها جوانب أيديولوجية معلنة، ربما باستثناء الأماكن الدينية الاسلامية. بالرغم من ذلك شكل هذا تهديدًا لسيطرة السلطات على المنطقة المهمّة لها رمزيًا أيضًا كونها الدالة على نجاحها في احتلال المدينة الفلسطينية وإخضاعها.
غزو النواة التوراتية
كُلّفت النواة التوراتية بمهمة استعادة المدينة من أهلها الفلسطينيين، فأقيمت لهم على أنقاض البيوت الغربية وبمحاذاة المقبرة الإسلامية أبراج سكنية تُدعى «رمات اليشيف» تطل على كل البلدة. وفي قلب البلدة شرعت المجموعة الاستيطانية بافتتاح وإنعاش عدد من كنس العبادة التي تم هجرها أو لم تجد من يفد إليها عبر السنين، وقامت بجولات ومسيرات استفزازية فيه، كما ونجحت بشراء عشرات الشقق السكنية في حي «رمات أشكول» من العائلات العربية وشركات حكومية وأنشأت بمحاذاته مدرسة دينية وعسكرية.
وفي الوقت نفسه تغلغلت المجموعة جيدًا في المجلس البلدي ومؤسساته، وتبوأ زعماؤها مراتب هامة في البلدية ممّا أدى إلى تسريع وتكثيف محاولات إعادة السيطرة هذه.
بعد مرور عشر سنوات على افتتاح محسن الصح للمقهى، تم إعلامه من قبل البلدية بأن عليه إخلاء المبنى وتسليمه للبلدية التي قررت أن تبني مكانه مقرًا جديدًا لها. مرغما انتقل محسن ورواد مقهاه المخلصون إلى مبنىً آخر قريب في قلب المدينة، ولكن مرّة أخرى ليس قبل أن ينظف ويرمّم. «المحل الجديد بده كثير شغل. (..) زمان كان مصنع لحمة وتركوه مزبلة» يقول محسن. لم أكن لأجد ما يدل على الصراع على قلب المدينة أفضل من هاتين المحطتين في حياة المقهى، الأولى إعماره من بين الركام وافتتاحه الأول للجمهور، والثانية إخلاء المبنى بأمرٍ من السلطات وهدمه وتموضعه في مبنى آخر بعد ترميمه.
قبل حوالي شهرين، تم افتتاح مبنى البلدية الجديد الذي أقيم على نفس المكان الذي كان عليه المقهى، والذي يبعد أمتارًا معدودة عن مبنى المجلس البلدي الفلسطيني المسلوب والمتروك منذ 1948. إلى هذا المبنى الضخم الذي يشبه القلاع والمحاط ببيوت قلب المدينة المتواضعة، دخل مدير عام البلدية المؤسس للنواة التوراتية وجماعته. ومنه سوف يستمر حتمًا في وضع خطط أكثر شراسة لتهويد قلب المدينة، لأنه لا يُعقل وفقًا لمنطقهم أن تعمل البلدية وتستقبل منتفعيها من اليهود في «منطقة عربية» ربما تنتفع اقتصاديًا من ذلك. أكثر من أي مشروع استيطاني آخر، جاء مبنى البلدية الضخم هذا ليعلن أن لا نية للسلطات في إبقاء الحال في قلب المدينة كما هو، وبأننا أمام مرحلة جديدة من التهويد. لقد أضيف هذا المبنى النشاز والمرتفع إلى الأبراج السكنية الاستيطانية القريبة، ومعًا قاموا بتحسين الجهاز الرقابي البانوبتيكوني الاستعماري، ووسّعوا حقل رؤيته وباتت دلالة على القوة والسيطرة.
الاسترداد الفلسطيني لقلب مدينة اللد جعل الوضع فيها مشابهًا للوضع في مدينة عكا القديمة من ناحية أنها تحت أيد فلسطينية وتحاول السلطة الاستيلاء عليها عبر مشاريع استيطانية. قلب المدينة المستعاد ليس تاريخيًا ولا مشتهى مثل عكّا القديمة، لكن كليهما يُعدّان اليوم «مناطق عربية» تواجه التهويد مجددًا. أكثر من مدن الساحل الأخرى، يجسد الصراع المستمرّ بين المستعمِر والمستعمَر في كل من اللد وعكا راهنية النكبة والخوف من فقدانٍ آخر. يمكن القول إن عنصرًا هامًّا قد توفر في المدينتين، قلّما يتوفر لفلسطينيي الأرض المحتلة عام 48، وهو إمكانية الفقدان. فقدان ما تم استعادته في اللد وفقدان ما تم البقاء والصمود فيه في عكا. هذان الإنجازان هما ما يقف وراء الاستهداف الاستيطاني الخاص بواسطة النواة التوراتية لكلتا المدينتين، وإمكانية فقدانهما تقف وراء تميز أحداث أيار الأخيرة في كلتا المدينتين من حيث الحدّة.
الصراع على مكان المدينة الفلسطينية في اللد وزمنها لم يكن جليًا كما كان في عكا. لا شك أن الأحداث الأخيرة أخرجت هذا الصراع إلى النور، وحتمًا سيتغير الخطاب وتتغيّر الأفعال المتعلقة به بالنسبة لطرفيه. بينما أوضح الاحتلال نواياه وما يعده بالنسبة لهذه الصراع، يبقى السؤال كيف ستؤثر هذه الأحداث على نهج الفلسطينيين فيه؟
- الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق