جاري تحميل ... مدونة المفكر

إعلان الرئيسية

أخر الموضوعات

إعلان في أعلي التدوينة

مقالات

لا تبالغوا في استعراض القوة

 بقلم: جميل عبد النبي



رغم ما خلفته الجولة الأخيرة من آلام، ومآسي، ودمار في البيوت والمنشآت الفلسطينية، إلا أن الفلسطينيين مجمعون أن لهذه الجولة آثاراً إيجابية على القضية الفلسطينية، أقلها أنها أعادت إلى حد كبير حضور القضية الفلسطينية على مائدة العالم، وتزايدت بشكل ملحوظ الأصوات التي تدعم حق الفلسطينيين في الحصول على بعض حقوقهم، حتى داخل الولايات المتحدة، الحليف التاريخي لإسرائيل، بل وحتى داخل إسرائيل ذاتها، كما أنها- أي الجولة الأخيرة- أوصلت رسالة مهمة للعالم، ولإسرائيل، ولكل المهتمين بالشأن الفلسطيني، أن هناك خطوطاً حمراً لا يمكن للفلسطينيين تجاهلها، وأنهم مستعدون لتقديم المزيد من التضحيات من أجلها، أضف إلى ما أحدثته الرسالة في الوعي الشعبي للكيان الصهيوني، حيث بدا واضحاً أيضاً أنهم بدورهم ليسوا آمنين، وأن المعارك لم تعد- كما كانت إسرائيل تخطط طوال الوقت- خارج حدودهم المسلوبة أصلاً.

كل ذلك لا ينكره المعنيون، حتى المختلفون مع قوى المقاومة التي خاضت الجولة الأخيرة بكفاءة عالية، إلا أن الخطر الذي يمكنه أن يتخلق نتيجة هذا الشعور بما يسميه البعض نصراً يتمثل في المبالغة في الثقة بقدرتنا الحقيقية كفلسطينيين منفردين أن نوقع هزيمة حقيقية بإسرائيل تمكننا من تحرير أراضينا بقوة سلاحنا.

اقرأ أيضاً: “حلّ الدولتين”: ما جدّية التداول وفرص إحياء المسار السياسي؟

مثل هذه المزاعم بدت حديثاً أشبه بالمسلمات ليس لدى أناس عاديين وحسب، إنما نخب، بعضها محسوب على طبقة المثقفين، وبعضها محسوب على فصائل المقاومة، ولا ندري بالضبط مدى قناعة هؤلاء بجدية مزاعمهم، أو أنها مجرد خطابات شعبوية تخاطب سيكولوجيا الجماهير الفلسطينية، التواقة للغة قوية تظهرنا كند حقيقي لإسرائيل، أو كمتفوق على هذا العدو الذي كادت دول كبيرة في المنطقة أن تسلم بكونه قدراً نافذاً لا مرد له، ثم فجأة يبدو كبيت العنكبوت على حد وصف بعض الناطقين الحزبيين، مثل هذا الخطاب يستهوي المشاعر الشعبية الفلسطينية، التي أذاقها الاحتلال الأمرين، تهجيراً، وقتلاً، وحصاراً، ما جعلها تشعر بنشوة عالية لأي قدرة على الإضرار بهذا العدو المجرم، ليس حباً في الموت، والقتل، أو القتال في ذاته، إنما حباً في حياة حرمه الاحتلال منها، ولذلك- كما قلت قبل قليل- فإن المشاعر الشعبوية تواقة لخطاب من هذا النوع، حتى لو كان مبالغاً فيه، حتى لو كان خطاباً لا يعبر عن حقيقة ما نمتلكه من القوة، إنما عن حقيقة ما نمتلكه من الآمال، والرغبات.

لم تثبت المعركة الأخيرة بعد قدرتنا على إزالة إسرائيل بقوانا الذاتية، ولا على قدرتنا على تحرير بعض المدن مثلاً، ولا حتى قدرتنا على الصمود في جولات أطول، أو أكثر تكراراً كل فترة زمنية قصيرة، أو حتى ضمان إعادة إعمار ما يتم تدميره في كل جولة بطريقتنا الخاصة بعيداً عن الاشتراطات الإسرائيلية، والتي كان آخرها ما يعرف بنظام” السيستم” الذي لا يمكّن أي راغب في البناء من الحصول على مواد الإعمار إلا بعد الحصول على موافقة إسرائيلية، بعد أن يكون قد قدم كل الوثائق المطلوبة، ومن ضمنها الجي بي أس، الذي يحدد بالضبط موقع المنشأة، أو البيت الذي يرغب صاحبه في بنائه.

لقد أثبتت الجولة الأخيرة حقيقة قدرتنا على إيلام العدو، مع تألمنا طبعاً، وأثبتت قدرتنا على الإصرار على قداسة مقدساتنا، وهذا حقيقي نفاخر به، لكننا نخشى أن نبالغ في بناء تصورات تفوق صورة الحقيقة، فتضعنا وجها لوجه مع الآلة الحربية الإسرائيلية، بل ووجها لوجه مع عالم كبير لم يُسلم بعد بإزالة إسرائيل عسكريا، وبالتالي فإن الخشية من بناء أوهام، أو أحلام، تجعل من أي حديث يتناول الحقيقة كما هي وكأنه خطاب مهزوم، أو انبطاحي، كما يحلو للكثيرين وصفه، بينما العودة إلى خطاب رمي إسرائيل في البحر، وإطعامها لسمك القرش، دون توفر قدرة حقيقية على الفعل، وكأنه خطاب بطولي، فدائي، هو وحده ما يجب أن نؤمن به، ووفقاً له نرتب أوراقنا، ونرسم سياساتنا..!

اقرأ أيضاً: “القدس” توحد الفلسطينيين من النهر إلى البحر وتكسر حاجز الخوف من الاحتلال

أنا ممن يؤمن أن الفلسطيني محظور عليه التنازل مبدئياً عن فكرة زوال إسرائيل، أو التخلي عن هذه الفكرة كهدف استراتيجي ولو بعد حين، لكني أخشى الخطاب المنتفخ الذي قد يعيدنا خطوات إلى الخلف، ويفقدنا بعض أهم أوراقنا، وهي تحديداً الوجود في الأرض على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، وعلى رأسها مدن الداخل المحتل، التي تعتبرها إسرائيل خنجراً في خاصرتها، تتمنى او استطاعت توفير الظروف للتخلص منها.

هذا ما أؤمن به، وأعلنه في كل المناسبات، والكتابات، وجوهر خلافي على الوسائل، والأدوات، بمعنى أنني لا يمكن أن أطالب بالتخلي عن هذا الحق الفلسطيني، لكني أرتعب من الحديث الشعبوي الذي يستبق الحقائق، أو يتجاهل إمكانات الواقع.

مشكلة أخرى يمكن للخطاب المبالغ في القوة أن يخلقها، وهي ما تسعى إليه إسرائيل بالضبط، تتمثل هذه المشكلة في منح إسرائيل المزيد من الشواهد التي تساعدها في إظهار نفسها كضحية، بينما هي الجلاد، المعتدي، الناهب لأراضي الآخرين.

لقد نجحنا إلى حد ما من خلال المقاومة الشعبية في القدس، والشيخ جراح على كشف بعض زيف الرواية الإسرائيلية، ومن ثم جذب تعاطف عالمي يمكنه أن يشكل ضغطاً حقيقياً على إسرائيل، ومنه ما أشرت إليه في مقدمة هذه المقالة، وهو نجاح مهم يجب البناء عليه، وتوسيع أثره بكل السبل، بينما يمكن للخطاب الشعبوي المبالغ في القوة أن ينسفه، ومن ثم نخسر ما حققناه بالكثير من الدماء.

يقيني أن خطابي هذا لن يرضي أرباب الخطاب الشعبوي، ويمكنهم ببساطة اتهامه، كما يحدث يومياً مع كل محاولة عقلانية يقدمها بعض العقلاء، لكني أراه ضرورياً مهما ترتب عليه من ثمن، في محاولة للحيلولة دون دفع ثمن أعظم، وأكثر إيلاماً لنا.

كما أن كل ما قلته أعلاه لا ينفي حقنا في المقاومة بكل السبل المشروعة، والمناسِبة، إنما أن تظل حقيقة الواقع كما هو ماثلة أمامنا، حتى نختار ما يناسب لحظتنا، الحقيقة كما هي، وليس كما نتمناها، من دون أن يكون لها رصيد حقيقي على الأرض.

الله المستعان


الوسوم:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *